مقالات
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن الحسد مرض العصور
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن الحسد مرض العصور
بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا
الرئيس التنفيذي لجامعة سيتي بكمبوديا
الرئيس التنفيذي للمؤسسة الدولية للدراسات المتقدمة بأمريكا
ورئيس جامعة الوطن العربي الدولي ( تحت التأسيس )
الرئيس الفخري للجمعية المصرية لتدريب وتشغيل الخريجين
الرئيس الفخري لمنظمة العراق للإبداع الإنساني بألمانيا الإتحادية
الرئيس التنفيذي للجامعة الأمريكية الدولية
الرئيس الفخري للمركز الدولي الفرنسي للعلماء والمخترعين
الرئيس الشرفي للإتحاد المصري للمجالس الشعبية والمحلية
قائمة تحيا مصر
نائب رئيس المجلس العربى الافريقى الاسيوى
الحسد: هو تمنِّي زوال النِّعمة عن الغير، وهو – في جوهرِه – اعتِراضٌ على عطاء المنعم – سبحانه وتعالى.
وقد قسَّم الله – سبحانه وتعالى – الحظوظَ والملَكاتِ والأرزاقَ على بني آدَم بِمقاديرَ مُختلفة، وأشكالٍ مُتباينة؛ حتَّى يستقيم أمرُ الحياة الدنيا على الهيئة الَّتي هي عليها.
ويقول الحق في بيان أسباب هذا التفاوُت: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً} [الزخرف: 32].
والحسد: أوَّل ذنبٍ عُصِيَ به اللهُ في السماء، وأوَّل ذنبٍ عُصِيَ اللهُ به في الأرض.
وأمَّا ما كان في السماء، فهو عِصيان إبليسَ أمرَ ربِّه أن يَسجُد لآدَم، لقد كان دافعَه الحسدُ لإكْرام الله له؛ قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29]، وسجد الملائكةُ لأمر ربهم، وأبى إبليس.
ولمَّا سُئِلَ عن سبب ذلك – أجاب: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12]، وكفر إبليس وطُرِدَ من السماء، وخسِر خسرانًا مبينًا بسبب تلك الآفة القاتلة.
وأمَّا ما كان في الأرض، فقَتْلُ قابيل لأخيه هابيل، لقد قدَّم كلٌّ منهُما قُربانًا إلى الله، فقُبِلَ قربانُ هابيل، ولم يُقْبل قربان قابيل، وقتل قابيلُ أخاه هابيل، وعجز عن مواراة جثَّته، إلى أن أرسل الله له غُرابيْنِ فاقْتَتَلا، وحفر القاتلُ حفرةً، ودفَن الآخَرَ القتيلَ، فحذا قابيلُ حذوَه، ووارى أخاه التُّراب.
لقد كان الحسد هو الدافعَ وراءَ أوَّل جريمةٍ على الأرض، على ما ساقه الله من فضل وإكرام لعبده، الذي قرَّب إليه قربانًا فتقبَّله منه، إشارةً إلى رضاه عنه، فحسده أخوهُ على ذلك الفضل.
وقد كان الأنبياءُ في بني إسرائيل كثيرين، منهم وإليهم، وشاء اللهُ أن يحوِّل النبوَّة إلى العرب، فبعثَ مُحمَّدًا – صلَّى الله عليه وسلَّم – إلى النَّاس كافَّة، بالإسلام عقيدةً وشريعةً، لا يتلوه رسالة.
وكان أمرُ هذه البعثةِ وخبَرُها معلومًا لأهل اليهوديَّة والنصرانيَّة في ذلك الوقت، منذُ أن أُنْزِلَ كتاباهُما من السماء، ولكنَّهم لم ينصاعوا إلى هذا الحقِّ الذي أُنْزِل من السماء، ولم يُؤْمِنوا بنبوَّة مُحمدٍ – صلَّى الله عليه وسلَّم – ولا بالإسلام؛ لأنَّهم حسدوا المسلمين على هذا الإِكْرام الإلهيِّ العظيم.
قال – تعالى – يُقَرِّر حقيقةَ عِلْمِهم بنبوَّة مُحمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – ونَفْي ادِّعائهم بأنَّهم لا يعلمون شيئًا من ذلك، بقولٍ قاطع لا يقدر أحدٌ على دحضه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]، وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ} [البقرة: 109].
ويحذِّرُ رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – من هذه الآفةِ الخطيرة، من آفات النفس البشريَّة القاتلة، والتي تفْتِكُ بالآخَرين، وتَمنَعُ الإنْصاتَ لصوت العقل، وتُفْضِي إلى الخصومة، ثُمَّ إلى الكفر والنَّار، بأنَّها ضارَّة بصاحبها أيضًا.
يقول رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الحسدُ يأكلُ الحسناتِ، كما تأكل النَّارُ الحطب))[1].
ولمَّا كان الحسد سلوكًا، له آثارُه الضارَّة على المؤمن، فقد أمَرَ الحقُّ عبادَه أن يعوذوا به من شرِّ هذه الآفة القاتلة؛ قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 1 – 5].
كمال العدل الإلهي:
وإذا كانت الإرادة الإلهيَّة قد قضتْ بِهذا التفاوت في الملَكات، والقُدُرات الإنسانيَّة، وأرزاقِ الناس في الحياة، فهلْ ذلك يسري على حظوظِ الآخرة؟
من كمال العدْل الإلهيِّ، أنَّ قِسْمَة الدُّنيا لا تقرِّرُ حظوظَ الآخِرة؛ ذلك أنَّ الفوزَ في الآخِرة أمرٌ في قُدْرَة كلِّ إنسانٍ، مهْما كان حظُّه من الدنيا.
إنَّ الحياة الدنيا مرحلةٌ متوسِّطة في الوجود، فللإنسان وجودٌ قبلَ المجيء إلى الدنيا، وله وجودٌ بعد الحياة الدنيا؛ قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172]، ذلك هو الوجود السابق على الحياة الدنيا.
ويموت الإنسان، ويكون له وجودٌ يقف فيه بين يدَيِ الله؛ ليحاسَب على ما كان منه في دار الاختبار؛ يقول تعالى: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 53 – 54].
هذه العلاقة بين العَمَلِ والحساب هي التي جعلتْ حظوظَ الآخرة متعلِّقةً بأبسطِ القُدُرات والملَكات الإنسانيَّة، يقدر على أدائها كلُّ إنسان مهما كان حظّه من الدنيا.
فطِن لذلك نفرٌ من المسلمين، فشكَوْا إلى رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – ذلك: “يا رسول الله، ذهب أهلُ الدُّثور (الأموال) بالأُجور، يصلُّون كما نصلِّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدَّقون بفضول أموالهم (وهذا موطِنُ التفاوت)، قال: ((أوليس قد جعل الله لكم ما تصدَّقون به؟ إنَّ بكل تسبيحةٍ صدقة، وكل تكبيرةٍ صدقة، وكلّ تَحميدةٍ صدقة، وأمر بالمعروف ونَهي عن المنكر صدقة))؛ “رياض الصالحين: 120”.
وهكذا أتاح الله لكلِّ النَّاس، أن يَجدوا كمال العدْل الإلهي في رحلةِ الإنسان الوجوديَّة؛ ليكونَ لَهُم نصيب في الآخرة، يوصِّلُهم إلى الجنَّة، ويُنقِذُهم من النَّار، بأدائِهم لِما شرع لهم من عبادات، هي في مستوًى يقدِرُ عليْهِ كلُّ واحدٍ منهم، فالصلاة نُعلِّمها لتلميذٍ عمرُه ستُّ سنوات، ويؤدِّيها صبيُّ العاشرةِ، والشابّ، والكهل، وهي تتَّفق مع القدرة الإنسانية وتدورُ معها، فمَنْ لا يستطيع الصلاةَ قائمًا يؤدِّيها قاعدًا، فإنْ لَم يستطِعْ فعلى جنبِه، كما تفصِّلُه كتب الفقه.
والزكاةُ تتعلَّق بالمال إذا بلغَ النِّصاب، وحال عليْه الحول، والحجُّ لِمن استطاع إليه سبيلاً.
والتوبةُ طريقٌ مفتوح في كلِّ مراحل العمر؛ لينضمَّ التَّائهُ إلى قافلة الإيمان، ويودِّعَ كلَّ ذنوبه؛ قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
ولله – قبل ذلك وبعده – فضلٌ على كل عباده، ويَختصُّ بعضَهم بِما يشاء من الفضل؛ ليُريَ الناسَ بعض آياته.
لقد خصَّ بعضَهم، وهم من العامَّة الذين لا يؤبَهُ لشأنِهم؛ فليس لهم سلطانٌ من الدنيا يُعْرَفون به، ولا مالٌ كثير يرفعُهم في عيون النَّاس، ولا جاهٌ عريضٌ يَمشون به في الأرض – خصَّهم الحقُّ بكرامة أعلَتْ من شأنِهم علوًّا كبيرًا، من أولئك: أويْسُ بن عامرٍ القرني، “كان بارًّا بأمِّه”، ذلك بعض أسبابِ إكرام الله له، “لو أقْسَم على الله لأبرَّه”، يا سبحان الله! ما كل هذا الإكرام!
أخبر عنه رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يأتيكم في أمدادِ أهل اليَمَن من قرن: أوَيْس بن عامر، فمَنْ لقِيَه فليَطْلُبْ منه أن يستغفِرَ اللهَ له))[2]، إنه مستجاب الدعاء!
رسول الله وأبو جهل:
كثيرون هم الذين لم يُتابِعوا رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فيما دعا إليْه، وماتوا على الشِّرْك، وما منعَهُم من الإيمان إلا أهواؤهم، ولننظر في هذه الواقعة، وكم فيها من غيْرة ومن حسد.
التقى أبو جهلٍ، وأبو سُفيان بن حرب، والأخنسُ بن شريق، وقدِ انصرفوا من حوْلِ بيْتِ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وقد جاءوا لا يَعرف كلُّ واحد منهم من خبر الآخَر شيئًا، يستمعون إلى رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يتلو القُرآن الكريم، وكان ذلك لقاءَهم الثالثَ، وتعاهدوا أن لا يعودوا لِمثلها فيُرَوْا على غيْرِ ما يعهدهم الناس، وفي صباح اليوم الثالث، دلَف الأخنسُ بن شريق إلى بيْتِ أبي جهل، يستطْلِعُ الأثَرَ الذي تركَه سَماعُ القرآن الكريم من فَمِ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – في نفس أبي جهل، ويسألُ الأخنس: فيم سَمع من محمد؟ ويردُّ أبو جهل: ما سمعت! (أي مثل ما سَمعتَ يا أخنس): “تنازعنا نَحن وبنو عبدمناف الشَّرفَ: أطعموا فأطعمْنا، وحَملوا فحملْنا، وأعطَوْا فأعطَيْنا، حتَّى كنَّا كفرَسَيْ رهان قالوا: منَّا نبيٌّ يأتيه الوحي من السماء، فمتى نُدْرِك مثلَ هذه؟ واللهِ، لا نُؤمِنُ به أبدًا، ولا نُصدِّقُه”.
وانكشف للأخنس ما انطَوَتْ عليْهِ نفسُ أبي جهل، لقد كان الحسد، فهو وراءَ كلِّ تلك الخصومة، واللَّدَد، والمقاومة الشديدة للإسلام ونبيِّه.
لقد صار أبو جهلٍ مدرسةً في الكفر؛ بسبَبِ هذه الآفةِ القاتلة، الحسدِ، وَعَلَمًا عليها.
يوسف – عليه السلام – وإخوته:
في سورة يوسف عِبرٌ كثيرة، لا يوفِّيها حقَّها سِفْرٌ عظيم، وقد وصفها الحقُّ بأنَّها “أحسن القَصَص”، وفضل الله يؤتيه مَن يشاءُ من عباده.
يقصُّ يوسف على أبيه رؤياه؛ أنَّه رأى الشَّمس والقمرَ وأحدَ عشر كوكبًا، رآهُم له ساجدين، ولفَتَ أبوه نظرَه إلى أن لا يقُصَّ رؤياه على إخوته؛ لكي لا يَكيدوا له كيدًا، حسدًا من أنفسهم، ويَحسُده إخوتُه على ما يروْنَه من إعزازِ أبيهم له، ويأتمرون به، ودبَّروا أمرًا ونفَّذوه.
وعادوا إلى منزِلِهم عشاءً يبكون، ويُعْلِنون أنَّ الذِّئْب أكلَ يوسف، وجاءوا بقميصِه وقد لُطِّخ بالدَّم كذِبًا، وأدرك يعقوبُ – عليْه السلام – الكيْدَ الذي أذهبَ يوسف في آفاقِ الأرض، لا يعلَمُ عنْه أحدٌ شيئًا.
ويبدأُ يوسف – عليه السلام – رحلةَ العذاب الشَّاقَّة، وينتهي به الأمرُ مكرمًا معزَّزًا، قيِّمًا على خزائنِ مصْرَ وأرزاقها، ويأتي إخوته وهم لا يعرفونه إليه في مصر، ويشتَرون منه قمحًا، ويردُّ لَهم أموالهم، ويعودون بأخيهِ الشقيق بنيامين، ويَستبقيه بِحيلةٍ عنده، ويعودون إلى ديارِهم بدونه.
ويُعْطِيهم قميصَه فيرتدُّ إلى أبيهِم بصرُه بإذن الله، ويدعوهم يوسُفُ إلى مصر، ويوصي يعقوبُ – عليه السَّلام – أبناءه أن لا يَدْخُلوا من بابٍ واحدٍ، فلا يزالُ هاجسُ الحسد يأخُذُ بِجماع نفسه من أثر قصَّة يوسف، وذهابِ بصرِه عليه، ويقف إخوتُه – وهم أحد عشر – وأبوهُ وخالتُه (ليئة) وهي بِمثابة أُمِّه، ويسجدون أمامه، ثُمَّ رفَعَ أبويْه بِجانبه، ذاك تأويلُ رؤيا يوسف التي قصَّها على أبيه، وما يقضيه الله ينفذ، ولا يستطيع كيدٌ بشريٌّ أن يعلوَ على تدبير الله، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]، وانظُرْ إلى هذه الآفة القاتلة: ماذا سبَّبَتْ لِيوسف وأبيهِ من عذابٍ وألَم؟
البخاري والذاكرة المحسودة:
أُوتيَ الإمام محمد بن إسماعيل البخاريُّ ذاكرةً من أعاجيب الخوارق، وكأنَّه قد جاء إلى هذه الدنيا ليقومَ بِما قام به من جَمعٍ لأحاديثِ رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – ليس غير! وقد عرَف النَّاسُ له حقَّه من التوقير والتقدير والاحترام، حتَّى كانوا يَخرجون إلى خارجِ بَلْدتِهم يتلقَّوْنه بالتّرحاب إذا علِموا أنَّه قادم إليهم.
ويَحضُر البخاريُّ إلى بغداد، فأجْمَع بعضُ علمائِها أن يَمتحِنوه امتحانًا عسيرًا، ظانِّين أنَّهم يقدِرون على إسْقاط ما حازه من ثِقة النَّاس به، وبعلمِه، وشهرته، وذاكِرَته الخارقة، أحضروا صبيانًا عشرة، وحفِظ كلُّ واحدٍ منهم عشَرَةَ أحاديثَ، وكان كلُّ حديث مشوشًا في سنده ومتنه، وتَحلَّق الناس ومعهم البُخاريُّ يستمعون، حتَّى أتمَّ الصبْيانُ قراءتَهُم للأحاديثِ المئة، واشرأبَّتِ الأعناقُ نَحو البُخاريِّ أعجوبة زمانه، وأنصتَ الجميعُ مندهشين يرقبون ما يكون منه.
وبدأ صاحب “الجامع الصحيح” يتدفَّق كالسَّيل الهادر، أعادَ قِراءةَ الأحاديث كما سيقت مشوشة السند والمتن، ثُمَّ صحَّحها واحدًا واحدًا، سندًا ومتنًا حتَّى أتَّمَّها، وسبحان مُقَسِّم الأقدار والمَلَكات والأرزاق، وكلُّ ذي نِعمة مَحسود.
أراد الإقامة في نيسابور، لكن بعض العلماء الأفاضل – وليسوا بالمعصومين – اعتراهُمُ الحسدُ عليه في العلم، فاتَّهموه بقولٍ مُخالفٍ لاعتِقاد أهل السنة، لمَّا صنَّف كتابًا، توهَّموا منه تلك المُخالفة، ولم يكن الأمرُ على ما قالوا،، والله المستعان.
فوجد عليه أميرُ نيسابور، وخرج من تلك البلدة قاصدًا بُخارى، فاستُقْبِل استقبالاً يَليقُ بِمثله، ونُثِرَتْ عليْهِ الدَّراهم والدَّنانير، وخرَج النَّاس كلُّهم لاستِقْباله”.
وفي بُخارَى لم يهنَأْ له المقام، فقد وقعَ بيْنَه وبين أميرِها خالد بن أحمد الذهلي جفوةٌ، أخرَجَتْه من المدينة إلى أخرى تسمى خرتنك، ذلك أنَّ أمير بُخارَى أرسل إلى البخاري: “أن احْمِل إليَّ كتابَ الجامع والتاريخ لأسمع”، فلم يعجبه ذلك، وهاج عليه العامة والغوغاء، حتى راموا إخراجه من مدينته.
ذلك فصلٌ من فصولِ آفة الحسَدِ، مِمَّا يَعتري النَّفْسَ البشريَّة، ولا يُطْفِئُها ويُخْمِد نارَها إلا الإيمانُ بِالله، والرِّضا بِقِسمتِه وعدله.
مراجع المقال
– القرآن الكريم.
– تفسير القرطبي.
– الوجيز في تفسير القرآن الكريم.
– رياض الصالحين، شرح صبحي الصالح.
– سيرة ابن هشام، عبدالسلام هارون.
– المصطفى في عصر المبعث، عائشة عبدالرحمن.
– حديث للشيخ علي الطنطاوي في التلفزيون السعودي.
– ملحق لمجلة الأزهر عن الإمام البخاري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه أبو داود وابن ماجه، وفيه ضعف، وحسن العراقي إسناده في “تخريج الإحياء”، وهو أيضا في “تاريخ بغداد”.
[2] حديث شريف رواه مسلم، واللفظ المذكور هنا لعله بالمعنى، ولفظه: كَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ إذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ اليَمَنِ سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ: ((يَأْتِى عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ اليَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ)) فَاسْتَغْفِرْ لي. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ.
أعجبني
تعليق
مشاركة