المستشار إيهاب عبدالرؤف… حينما تتمثل العدالة بإنسان

بقلم: ريم ماهر
كنتُ – وما زلت – أرى أن قاعات القضاء أماكن يغشاها الصمت المهيب، وأن القضاة وجوه من حجر لا تعرف سوى النصوص، ولا تنطق إلا بما سُطّر في دفاتر القانون. غير أنني ما إن سمعت باسم المستشار إيهاب عبدالرؤف، وما إن تتبعت أثره في محراب العدالة، حتى أيقنت أن في هذا التصور نقصًا، بل ظلمًا، وأن العدالة لا تقوم على الحجر وحده، وإنما تحيا إذا دبت فيها الروح، وتوهجت بالرحمة.
كان الرجل قاضيًا، نعم، ولكنه لم يكن قاضيًا كسائر القضاة. فقد كان القانون بين يديه يلين كما يلين الطين بين أصابع الفلاح، فإذا به لا يقتصر على نص جامد، ولا يقف عند حدٍ أُملِي، وإنما يصير حياة، ويصير رحمة، ويصير دربًا يخرج الناس من عثراتهم. وقد شهد له القريب والبعيد بنزاهة لا تتزحزح، نزاهة لا يداخلها غرض، ولا تميل مع هوى. وكان زملاؤه يقولون: “إذا حكم إيهاب عبدالرؤف، استراح الضمير واطمأن القلب”.
ولم يكن سر قوته في صوته المرتفع، ولا في سلطانه الظاهر، وإنما في ذلك الصمت الصادق الذي يواجه به الباطل، وفي تلك الشجاعة الخفية التي تجعله يقف حيث يتراجع غيره. كان يعرف أن العدل رسالة قبل أن يكون وظيفة، وأن القاضي لا يُذكر بأحكامه وحدها، بل بما يزرع من أثر في قلوب الناس.
ولقد جلستُ أستعيد بعض ما حُكي عنه، فإذا بي أرى أمامي صورة إنسان لا قاضٍ فحسب. أذكر ذلك الشاب الذي وقف مضطربًا أمامه وقد زلت به قدم في لحظة ضعف، فخُيّل إليه أن المستقبل انقطع. سأله القاضي: “ماذا تحلم أن تكون؟” ارتبك الشاب، ثم سمع صوته الحاني يقول: “لا تدع لحظة واحدة تسرق عمرك كله”. وخرج الشاب من القاعة وقد حمل بين يديه بادرة حياة جديدة.
وأذكر تلك الأم البائسة التي جاءت تبكي ابنها، فاستمع إليها القاضي طويلًا، ثم قال: “ربّيه على الصدق، وسأمنحه فرصة”. لم تكن كلماته حكمًا قضائيًا فحسب، بل كانت رجاءً يتسلل إلى قلبها، وأملاً ينهض بابنها من عثرته.
وأذكر الغارمات اللواتي ضاقت بهن السبل، ففتّش في أوراقهن لا ليشدّد العقوبة، بل ليجد مخرجًا. وأذكر الطفل الذي حضر نزاعًا بين أبويه، فارتجف وهو ممسك بثوب أمه، فأمر أن يُبعد عن الضوضاء، ثم أوصى: “لا تجعلوا هذا الصغير يدفع ثمن خلاف الكبار”.
ولم يكن المستشار إيهاب عبدالرؤف يزن الناس بميزان الخطأ وحده، بل بميزان الإنسانية. كان يدرك أن وراء كل قضية إنسانًا له قصة، وأن ما يراه الورق جريمة قد يكون في الحقيقة صرخة استغاثة لم يسمعها أحد. لذلك كان يستمع بإنصات، لا ليحكم فقط، بل ليعرف موضع الألم، وليزرع في النفوس أن العدالة ليست سوطًا يجلد، بل يدًا تمتد لتمنع السقوط.
ولم يكن حضوره بين الناس مجرد حضور جسد، بل كان حضور روح. كان يرى في كل وجه يمرّ به قضية لم تُعرض بعد، ونداءً لم يُسمع بعد. فإذا صافحك، شعرت أن قلبك أخفّ، وإذا تحدث معك، أيقنت أن للعدل لغة أعمق من القانون، لغة لا تُكتب في الدفاتر، بل تُحفر في الضمائر. كان يقين الناس به يسبق اسمه، وثقتهم فيه تحكم قبل أن ينطق بالحكم.
وقد كان يؤمن أن القاضي إن فقد إنسانيته صار آلة، وأن القانون إذا تجرد من الرحمة صار سيفًا يقطع بلا تمييز. لذلك ظلّ يعلّم كل من حوله أن العدالة ليست أن ينتصر طرف على آخر، بل أن يخرج الجميع وفي قلوبهم شعور أن صوتهم قد سُمِع، وأن إنسانيتهم لم تُهدَر. فكان قاضيًا يكتب على جدار الزمان عبارة لا تُمحى: “العدل لا يكتمل إلا حين يصير وجهًا من وجوه الرحمة”.
وما كان أثره مقصورًا على قاعة المحكمة وحدها، بل تجاوزه إلى ساحات الناس. ففي لجان الانتخابات رأوه يترك مقعده، وينزل بنفسه إلى كبار السن وذوي العجز، يحمل الكراسي، يمد يده للضعفاء، يبتسم في وجوههم. وكانوا يرون في تلك اللحظة أن العدالة ليست منصبًا رفيعًا، بل انحناءة إنسان أمام إنسان.
ولعل أعظم ما يتركه في الأذهان أنه لم يكن قاضيًا في منصة القضاء فحسب، بل كان قاضيًا في حياته كلها؛ في حديثه، في تعامله، في خطواته بين الناس. كان يمشي بينهم بلا حواجز، يحييهم بابتسامة صافية، ويترك في كل قلب أثرًا لا يُمحى. كأنما أراد أن يقول: “العدل لا يُمارس ساعة في القاعة، بل يُعاش عمرًا كاملاً في كل تفاصيل الحياة”.
ولست أنسى – وقد قصّوا عليّ – ذلك المساء الماطر حين خرج من المحكمة مثقلاً بأوراقه، فاقتربت منه عجوز رفعت يديها بالدعاء، وكان هناك شاب يتأمله بعين ممتنة، وكان في الخلف أم تضم صغيرها وتهمس: “هذا القاضي علّمنا أن العدل لا ينفصل عن الرحمة”. عندئذ ابتسم في هدوء، ومضى في طريقه، كأنه يترك خلفه وصية صامتة تقول: “ابقوا بشرًا ما دمتم في مواقع العدل”.
فكان مشهده الأخير لوحة لا ينساها من رآها، وكان أثره الباقي أن العدالة إذا خلت من الرحمة صارت قسوة، وإذا امتزجت بالرحمة صارت حياة.