رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الشباب والتيارات المعاصرة
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الشباب والتيارات المعاصرة
بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الحديث في موضوع كهذا، له أهمية كبيرة من حيث الاستيعاب والاستعداد، لأن ما يعترض الشباب، ويشوش أفكارهم، وخاصة في عصرنا الحاضر، الذي تكاثرت فيه التيارات المتعارضة، بحيث أصبحت الأفكار المتصارعة من نماذج متعددة، سمة من سمات العصر الذي نعيش فيه، يجب أن تؤخذ الأهبة له.
ولذا فإن على المهتمين بتأدية الأمانة العلمية والقيادية واجباً يحسن بهم أن يأخذوا الحيطة من أجله. وجهوداً يجب أن يبذلوها من أجل حماية الشباب، وتحصين عقولهم من تلك الأفكار المسلطة. وتنقية أفكارهم عن تلك التيارات الجارفة. وإحلال أذهانهم بأفكار إسلامية مكانها، حتى يكون لدى الشباب في البيئة الإسلامية مناعة في التصدي، وقدرة على المجابهة.
وهذا الموضوع في نظري هام وخطير، وأستميح القارئ عذراً فيما قد يبدر من قصور، أو يلمس من نواقص، لأن الإِحاطة بجوانب هذا الموضوع، والاستشهاد بالوقائع، يحتاج لقدرة أمكن، واطلاع أكثر.. ولذا فإن ما أطرحه في هذه العجالة، ما هو إلا جهد المقل، مسترشداً بالتعليق والإِضافة والتوضيح والإِبانة ممن له إحاطة ودراية.. ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، إذْ حسبي في هذا التعرض الحماسة والرغبة في المشاركة، وطرح الموضوع للإِبانة عن أهمية الحاجة إلى حلول مريحة، تطمئن الأمة على شبابها، وتعين في حمايتهم من المخاطر المحدقة بهم.
ذلك أن شباب اليوم يمرون بعقبات متعددة، وتحيط بهم مدلهمات خطيرة، وتكتنفهم تيارات عديدة أكثر مما أحاط بشباب الأمس، لأنه قد ركز نحوهم غزو متعمد، بقصد بلبلة أفكارهم، ونصبت لهم الشباك بطرق شتى لمباعدتهم عن دينهم، وتشكيكهم في قدرة شرائعه على حل ما يعترضهم، ومحاولة صم آذانهم عن فهم تعاليمه فهماً صحيحاً، أو أخذها من مصادرها الموثوقة.
ولذا فإن الحماية من تلك الأخطار تحتاج إلى جهد يبذل، وعمل يتواصل، وجهود تتظافر، مع فهم عميق، وإدراك وروية.
شباب اليوم انفتحت أمامهم مصادر المعرفة، وتكاثرت عليهم الآراء المتباينة. وانتشرت في ثقافاتهم الأفكار والنوايا المغرضة، التي يراد بها تشكيك المسلمين في دينهم، وانحرافهم عنه، ما بين مسموع ومرئّي ومقروء.
وقد تعددت المصادر التي تأتي منها الأفكار والعلوم، وأصبحت المعرفة الموجهة إلى الشباب ذات أبعاد متنوعة من فكرية إلى عقدية إلى مادية وابتزاز، إلى ملذات ودعوة لتسليم النفس قياد الهوى، والنفس أمارة بالسوء.
ترابطت أطراف العالم بثقافاته، وتشابكت الطرق المؤدية لذلك، وتعددت الوسائل الحاملة لهذه الثقافات، وخلف كل ثقافة بعداً عميقاً في الجذور العقدية، والمنطلقات الفكرية. وغالبها خلفه أيد نشطة تحركه وتغذّيه، وتدفع في سبيله الشيء الكثير من جهد ومال ووقت وتخطيط.
أصبحت وسائل الثقافة الموجهة، متوفرة في كل صقع من الأرض، بل دخلت كل بيت في أنحاء المعمورة، حتى أكواخ الفقراء، ومضارب البادية، وحصون النساء المخدَّرات، لقد تسربت إلى كل مكان تحركها عوامل متعداة: من نفس وهوى وشيطان.. وشياطين الإِنس أشد خطراً من شياطين الجن.
أصبحت وسائل الثقافة اليوم سلاحاً ذا حدين في التوجيه والاهتمام، وهو إن روعي فجانب خير ومفيد.. وهذا لن يتأتّى إلا بجهود مبذولة في التوجيه والإِعداد، ومغالبة للنفس في العمل، وهو قليل في أرض الله الواسعة، إلا ما رحم ربي.
وجهود أخرى في المراقبة والحيطة.. وهذا الجانب المهم، مهما بذل فيه فإن له طرقاً للإِفلات يدركها المتمرسون فيه، والمدفوعون إلى ترويجه لأي هدف، وبأي مصلحة شخصية أو جماعية.
وعندما نجيل النظر، فإننا لا نجد شخصاً لا يملك جهاز راديو، أو يحتفظ بجهاز للتسجيل، كما أن الأجهزة المرئية من تلفاز وفيديو، وغيرها قد سرت في المجتمعات الإِسلامية سريان النار في الهشيم.
أما الصحف والثقافات المتعددة، المهتمة بالصورة المثيرة، والمعلومات التي تتلاعب بأوتار الحواس عند الشباب، وتثير العواطف والشهوات، فهي المصدر المحبب إليهم أخذاً من قول الشاعر:
منعت شيئاً فأكثرت الولوع به أحب شيء إلى الإِنسان ما منعا
فكان لابد من معرفة ذلك، ثم التعرف على السبل المعينة على حماية المجتمع، وتسليح الفرد لمجابهة تلك الأخطار المحدقة والأعمال المسلطة.
فالإِنسان لابد أن يكون حذراً مستعداً للمعركة بما يناسب المقام من سلاح وقوة: قوة في الفهم والإِدراك، وقوة في الحجة ورد الشبهات، وسلاح يقارع به ما سلط نحوه، وما نصب له من أهداف، كما يقال في المثل العربي: إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب. والموجَّهُ للأمة الإِسلامية شرور كثيرة يجب أن يتقى سلاحها بالتحصن والمدافعة.. مع الحذر والحيطة.
ونستطيع أن نجمل مسارب التيارات المعاصرة في الأمور التالية:
1 – الهجمة الشرسة على الإِِسلام والعداء للمسلمين.
2 – قسر الأمور الإِسلامية حتى توافق الأهواء.
3 – التشكيك في التشريعات الإِسلامية.
4 – ما تنطوي عليه أفكار المبشرين والمستشرقين.
5 – الحرب على اللغة العربية.
6 – تسليط المغريات، والترغيب في الملذات.
7 – إظهار شعارات مختلفة لتكوِّن مجالات للترابط والتقارب مع الإِسلام.
8 – إيجاد هوة بالنفرة بين الشباب وبين قادتهم وعلمائهم.
9 – تحريك النزعات العقدية، والنزعات العرقية.
10 – تجسيم التيارات الفكرية، ونشرها وتمجيد أصحابها.
11 – تبني التيارات الأدبية بمذاهبها وأهدافها.
12 – تثبيط همم الشباب، وتشكيكهم في قدرة أمتهم الإِسلامية في مسايرة الأمم الأخرى حضارياً وعلمياً.
وسوف نمر بكل واحد من هذه الأمور على عجل، لأن الوقت المخصص لا يسمح بالإِطالة والاستقصاء لعل من معرفة الداء، يوفقنا الله للوصول إلى الدواء، واستعماله فأقول وبالله الاستعانة:
1 – الهجمة الشرسة على الإسلام: فمنذ أن أشرقت أنوار الإِسلام الساطعة في بطاح مكة والهجمة عليه وعلى رسول الهداية شرسة، ونارها مستعرة: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}[1].
لكنها في العصر الحاضر أخذت طرقاً أخرى كاختلاق الأوصاف والنعوت للمنتمين إليه، والحريصين على التمسك بشعائره. ذلك أن يقظة المسلمين، وعودتهم لصفاء تعاليم دينهم، النقية من الشوائب والرجوع لكتاب الله، والصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمر لإِبعاد ما أدخل على الإِسلام في عصور الجهل والتقليد.
هذه الأمور تقض مضاجع أعداء الله، وأعداء دينه في كل مكان، وفي مقدمتهم إمامهم وزعيمهم إبليس اللعين، الذي أخذ على نفسه عهداً بصد عباد الله عن الطريق المستقيم، بعد ما أعطاه الله الوعد بالإِنظار إلى يوم الدين، فقال جل وعلا، على لسان عدو الله، وعدو عباده: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[2].
وفي سورة أخرى جاء قول الله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأََقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[3].
ويسهل مهمته أعوانه من شياطين الإِنس والجن، الذين: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}[4].
إذْ نلمس فيما يقدم من آراء وأفكار تنال الإِسلام وشرائعه أن خلفها اختلاقاً وترويجاً ومتابعة مصدرها اليهود منذ بعث صلى الله عليه وسلم وحتى اليوم.
ولذا فإن الشيطان يفتح لأوليائه طرقاً في الهجوم على الإِسلام بأساليب متنوعة ذات ملمس ليّن، ومخبر سيء، يخاطب بها عقولاً متباينة، فيعطي لكل عقل ما يتلاءم معه إدراكاً وتفكيراً، ويفتح له مغاليق الرغبات والنزعات، ليرضي أثَرَةً في نفس ذلك الشخص، ويحبب إليه العلوّ والتسلط.
ولذا نهى جل وعلا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم عن سبّ آلهة الذين كفروا، لأن هذا يدفعهم إلى التعصب الأعمى، فيسبوا الله عدواً بغير علم[5].
ومن تنزيه الله تبارك وتعالى عن سفههم المقيت، جاء الأمر الرباني بتوجيه أكرم خلق الله، والمؤمنين المتبعين له، بأن يكونوا قدوة صالحة، ونموذجاً فريداً حتى يحتذي الآخرون ذلك المنهج، فقال جل وعلا: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[6].
ولن تتوقف تلك الهجمات مادام في الدنيا خير وشر، إلا أن المسلمين يستطيعون التصدّي لذلك بفهم دينهم، حيث تنمو الحجة، لتقطع بالبرهان، والدليل القوي.
وفي هذا الموقف فإن على الشباب دوراً هاماً في تقوية الملكة: تعلماً وتدريباً وسؤالاً وأخذ منهج القرآن الكريم في التوجيه وطريقة النقاش نبراساً، ومشعل هداية. لأن في تعليماته خير مدرسة، وفي نقله صورة ما حصل من المشركين واليهود من حوار وشبهات، وإجابة على ذلك خير معين، يشد العزائم، ويقوي النفوس، فيما تريد المسيرة نحوه، حيث طرحوا أقوى ما لديهم من شبهة، دحضت بالحجة القوية والدليل المقنع.
يدرك هذا كل من لديه عقل سليم، وفهم عميق: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}[7].
2 – محاولة قسر الأمور الإسلامية حتى توافق الأهواء: وفي هذا الجانب يحاول المتربصون بالإِسلام وأهله، تحريك أنصاف المتعلمين، وأرباعهم باستثارة نقطة معينة أمامهم. ليفسروا الأمور المحيطة بهم، بما تصف الأهواء، ويلين في الألسن، تقليداً لأهل الكتاب في بدء إعراضهم عما جاءتهم به رسلهم من الهداية والنور المبين، واستهانة بشرع الله، ومخالفة رسله فيما أمروا به، فيسايروهم في ذلك الأمر، ويسيروا خلفهم حذو القذة بالقذة.
والشباب تبهرهم مسارات الأمم الأخرى، وما لديهم من مظاهر براقة، فيلتفون حول كل دعوة تربط الجديد في حياتهم بالدين، والمظاهر المدنية بنصوص الشرع، وقد لا يميزون بين الصحيح المقنع، والغريب المتكلف. ففي فترة من الزمن برزت على الساحة الثقافية كتب كثيرة تمجد الاشتراكية وتصفها بأنها من الإِسلام، وأن الدين الإِسلامي يدعو لها، وقد أخرِجَتْ كتبٌ باسم أبي ذر الغفاري ووصفه بأنه أول اشتراكي في الإِسلام، وقسرت دراسات وأفكار لتتفق مع ما يدعو له زيد وعبيد، لشحن الأذهان بأن ما دعا إليه هو متلائم مع الإِسلام، وضربت النماذج برجال من الزهاد وأهل الورع والتقى كأهل الصفة الذين منهم أبو هريرة، وبمكانة بعض الصحابة كبلال ومصعب بن عمير وغيرهما.
وما أكثر اغترار شباب ذلك الجيل بالعبارات المنّمقة والأساليب الخدّاعة، والتأثر بالأسماء اللامعة من الأدباء والعلماء الذين كتبوا وشجّعوا. وكأنه قد خفي على هؤلاء وأولئك منحى الإِسلام في تصريف المال، وطريقته في حماية الفرد والجماعة وما تعنيه اشتراكية كارل ماركس اليهودي، من أمور أساسها وقوامها فكرة الإِلحاد في العقيدة، وإنكار وجود الله جل وعلا وتقدّس وتعظم، عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ويستطيع الشاب اليقظ أن يدرك حقيقة ما يطرحون لأنهم يسمّونه نظرية، والنظرية تعرف بأنها ما يقبل الخطأ والصواب، أما المسلم فيعتبر القرآن والسنة في الشريعة حقيقة لا يتطرق إليهما الشك. فالحقيقة تنفي النظرية والشباب في كل عصر ومصر تتجدد أمامهم أمور، ينبري لتبنيها أصحاب الأهواء، وتنطلي بمظهرها على ضعاف الثقافة، وبسطاء الإِدراك.
والحق لا يتبع الأهواء، ولا يخضع للرغبات الشخصية، كما قال جل وعلا: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}[8].
والجهلة من العلماء أو المتجاهلون، هم المطيّة التي يركبها أعداء الله وأعداء دينه وفي مقدمتهم اليهود، لتحقيق المآرب، وهم الدمية التي تحرك من وراء الستار لتدار في الاتجاه الذي يريده المتخفِّي. لأن أعداء دين الله يدركون عدم قبولهم في المجتمع الإِسلامي، وعدم الإِصغاء لما يقدمون من وجهة نظر، بل العكس محاربة كل ما يأتي عن طريقهم ومقته، كما قال بذلك أحد المستشرقين عندما حاول دراسة نفسيات المسلمين في دولة أفريقية فقيرة.
ولقد استغل هذا المركب الاستعمار في بعض ديار الإِسلام، فارتفع قدر الدور الصوفي وزاد الاهتمام بالطرقية في البلاد التي دخل، وشجعت الفرق الصغيرة الخاملة لتكون ذات صوت إسلامي كالقاديانية والبهائية وغيرهما، ووجدوا في الشباب خير معين في تحقيق الهدف الذي قصدوه: لحماستهم، واندفاعهم، وسطحية ما لديهم من معارف وعلوم. فأصبح البغاث مستنسراً في ديار الإِسلام، ونجح أعداء الله في تغذية مجال التنافر والتناحر بين المسلمين، وهم بذلك مدركون حقيقة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من إدراك المسلمين له، وذلك عندما قال صلى الله عليه وسلم: “سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني الثالثة: سألت ربي ألاّ يهلك أمتي بسنة عامة، فأعطانيها، وسألته ألا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها وسألته ألا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها” أخرجه الترمذي ومسلم عن خبّاب بن الأرتِّ رضي الله عنه.
3 – التشكيك في التشريعات الإِسلامية، وفي قدرتها على مواءمة الحياة الحاضرة: بحجة أن العصر قد تطور، وأن متطلبات الحياة، وأسلوب تعامل الناس فيها، يدعو إلى الأخذ بما في حياة الأمم من أسلوب في التعامل القانوني والربوي والاجتماعي والإِداري والتربوي، وتنظيم الضرائب والغرامات والتأمينات إلى غير ذلك من أمور حسبها أصحابها جديدة، وأن الإِسلام بعيد عن الأخذ بها، لأنهم لم يفهموه، وقصر بهم علمهم عن استظهار ما تنطوي عليه شريعة الإِسلام من أمور تحل بها المشكلات الاقتصادية وغيرها مما بدأ وسيجد في تنظيم الحياة، وتسيير أمور الناس فيها، وغاب عنهم مفهوم قول الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[9].
وشمولية هذا الدين الذي جعله الله خاتم الأديان، في حل كل معضلة تعترض أو مشكلة تنشأ فوصفوا الإِسلام وتشريعات الله فيه، بما وصفوا به دياناتهم النصرانية واليهودية وغيرهما، مما دخلته يد الإِنسان تعديلاً وتبديلاً. وهم بذلك يريدون إلباس الثوب الجاهز في انتقاداتهم لدياناتهم وتصرف رجال الكهنوت فيها وتعديلات العلماء ورجال الدين في تشريعاتهم وما أنزل عليهم من كتب، برسالة الإِسلام والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وما جاء في القرآن الكريم الذي حفظه الله من العابثين، وحماه من أصحاب الأهواء. فهم قد وجدوا في أحبارهم ورهبانهم صفات وأعمالاً متباينة، جعلت العقلاء والمفكرين يعددون مآخذ كثيرة مما أوجد في تاريخهم الطويل – لمن يقرؤه – ثورات متعددة على الكنيسة وحماتها، والمنتفعين من ورائها.. بدءاً بمحاكم التفتيش والتسلط ونهاية بالثورة العلمية، حيث اتجهت أفكار شبابهم إلى المبادئ والأيدولوجيات المختلفة من: علمانية في العقيدة، ورأسمالية في المال والعمل، إلى إلحادية في العقيدة واشتراكية في المال والتوجيه.. ثم تبع ذلك أفكار ومبادئ متعددة كالماسونية والوجودية وغيرها كثير، ((إذ خلف كل مبدأ غاية وهدف يرمي إلى جذب المنتمين إليه))[10].
وما ذلك إلا أن عقولهم كانت فارغة من الإِيمان بالله، ومما تعنيه قوة الإِيمان، وناقصة في فهم العقيدة الصافية الصادقة بتوجهها لله، حيث يحث على ذلك الإِسلام وتجعل تعاليمه سياجاً يحمي النفوس من المؤثرات.
وإذا كان قد جاء في المثل العربي: كل إناء بالذي فيه ينضح، وقولهم: كل ينفق من معين داره.. فإنما يتحمسون له من باطلهم، جعلهم يلفقون التهم حول الإِسلام تشكيكاً وافتراء وتهويلاً، وتلبيساً على الذين لا يعرفون شيئاً عن تعاليم الإسلام وأثرها في حياة الفرد ونماء المجتمع، واستقامة شئون الحياة.
في الوقت الذي انساق معهم ضعاف القدرة العلمية، والتمييز والإِدراك، لأبعاد ما طرح أمامهم، كجزء من الاستجابة للتيارات الموجهة.
ووافقهم عليه المنبهرون بمظاهر حضارتهم، المنخدعون بلحنهم في القول، وما جسّموه من أوهام، في مثل نعتهم آثار الحدود الشرعية في الإِسلام: في الزنا والسرقة، والقذف، وشرب الخمر والردة عن الإِسلام وغيرها بنعوت عديدة كالقسوة والظلم والوحشية، وأن البدائل التي لديهم أرحم وأكثر التصاقاً بالإِنسانية، وتوجيهاً للمنحرف.
ودورنا في هذا هو تعبئة أذهان الشباب وثقافاتهم، بالنظرة الشمولية من الإِسلام، واهتمامه بحفظ الفرد والجماعة، وصيانة الأعراض والأموال، بوضع الحواجز التي تردع جماح النفوس، وتحمي الحقوق عن التعدي أو التطاول، ومناقشتهم من المنطلق الذي يعرفونه بآثار الجريمة والاعتداءات في ظل نظام الإِسلام، بعد مقارنتها بما لديهم في بيئاتهم، إذ جعل الله لكل تشريع حكمة وغاية.
والشباب هم الأرض الخصبة لهذه الشبه، وهم أيضاً الدرع الواقية، إذا عرفوا وأدركوا نظرة الإِسلام لهذه الأمور، ليذبّوا عن دينهم شبهات المبطلين، ويحموا مجتمعهم من نفثات المغرضين الحاقدين، ويوضحوا لغيرهم خفايا ما يقال حول الإِسلام، إذا صدروا في فهمهم عن علم حقيقي مستمد من الفطرة الإِسلامية الشمولية لكل أمر يطرح.
4 – ويدخل في النقطة السابقة: ما تنطوي عليه أفكار المبشرين، وما تنفثه سموم المستشرقين: نحو تراث الإِسلام، وما جاء في تعاليم الإِسلام بمصدريه، حيث نلمس أمثال ذلك عند: غوستاف لوبون الفرنسي، وجولد زيهر الألماني، وصموئيل زويمو القسّ الانجليزي، الذي قيل عن أصله بأنه يهودي، ووول ديورانث صاحب قصة الحضارة، وغيرهم كثير.. أوائلهم وأواخرهم من الذين هاجموا الإِسلام وأرادوا تقويض دعائمه بكل ما أوتوا من قدرة علمية[11]، في الكتابة والتدريس وفي المناقشة، ووضع الشبهات أمثال:
– تعدد الزوجات، ووصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة ومن جاء بعدهم بنعوت منها الشهوانية والتلذذ، وامتهان كرامة المرأة.
– إطلاق الحرية للمرأة بالاختلاط في العمل، والعلاقة بمن تشاء، والتصرف بنفسها بما تريد مادامت تجاوزت الثامنة عشرة، ووصفهم الإِسلام بالتحجير والتضييق على حركة المرأة وفكرها.
– اتهامهم عائشة رضي الله عنها بالفحش رغم أن القرآن الكريم برأها، كما هي تهمتهم من قبل لمريم عليها السلام، واختلاق الأكاذيب حول مواقف إسلامية لكثير من القادة الإِسلاميين كخالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم.. والكذب في سير حياتهم بأن رغبتهم في القتال أساسه الحرص والاهتمام بالحصول على نساء من يقاتلون، بحيث يطرحون شبهاً حول شرعية الجهاد وتحويله إلى رغبات شخصية لا حباً في نشر دين الله، وإعلاء كلمة التوحيد، ومحاربة ما نهى الله عنه من عقائد ومعتقدات.
– إشاعتهم أن الإِسلام لم ينتشر إلا بالسيف والقوة، واصفين المجاهدين في سبيل الله بحب القتل من أجل التسلط والسيطرة وكسب المغانم، ووصفهم الحدود الشرعية بالقسوة وامتهان كرامة النفس البشرية.
– ترغيبهم في الخمر والزنا واللواط، وأن ذلك لم يحرم في الإِسلام إلا لسبب انتهى وقته، وزالت المؤثرات الداعية إليه.
– تشكيك أبناء المسلمين ممن يسافر إليهم للدراسة أو العمل أو السياحة حول لحم الخنزير، وأنه حرم في الإِسلام لعلة صحية أمكن السيطرة عليها بالطب الحديث، وأساليب الطهي والتعقيم.
– فريتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه تعلم على أيدي اليهود والنصارى في الشام والمدينة، وأنه استقى ما في القرآن الكريم – الذي يصفونه بأنه كتاب ألفه محمد. كما ذكر ذلك صاحب المنجد وغيره – من علومهم متأثراً بما تلقى عنهم، حيث جاء من أكاذيبهم بأن محمداً صلى الله عليه وسلم تعلم على أيدي اليهود والنصارى ليوهموا من يقتنع بكلامهم أن الدين الإِسلامي تبع لدياناتهم، وأن القرآن الكريم أصله ما في أيديهم من التوراة والأناجيل المحرفة، ومن هذا الكلام يتوصلون إلى الاهتمام بالأصل وترك الفرع، الذي يعنون به القرآن الكريم. وصدق الله جل وعلا في قوله الكريم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى}[12].
– تشبيههم حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما يأتيه الوحي بالمصروع أو بمن مسّ من الجن. وهذا من المساس بالوحي وبرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقصد الإِنقاص من مكانتها في النفوس.
– تشويههم لتاريخ الإِسلام، ووصفه بنعوت منفِّرة ومشككة في صحة نوايا قادة الإِسلام وعلمائه، كوصفهم لهارون الرشيد بأنه زير نساء وتجسيمهم الرقّ في الإِسلام، وخوضهم في سير رجالات الإِسلام بإدخال هنات تقدح في شخصياتهم، وتجسيمهم الأخطاء، وتعمد الكذب في هذا التاريخ بما يدسونه من أمور تختلف من عصر إلى عصر حتى نهاية الدولة العثمانية.
– حرصهم على إشاعة ونشر كتب السحر والمجون والطرق الصوفية، والقصص الخرافية، والموسيقى وأنواع الغناء، وإبراز ذلك على أنه تراث إسلامي، وجعل ذلك مجالاً للقدح في حضارة العرب وتاريخ الإِسلام.
– سرقة تراث المسلمين وكتبهم، وما تنبئ عنه من علومهم المختلفة، وتسمية ذلك لرجال منهم، ونسبتها إليهم اختراعاً وتأليفاً وفكراً. كما في الدورة الدموية لابن النفيس، وطب الأطفال لابن ربن، وعلاج الشقيقة وغير ذلك من العلوم المختلفة، وخاصة العلمية منها[13].
– دسهم الكثير في تاريخ الدولة الأموية، وأجزاء من تاريخ الدولة العباسية، وبث المعلومات الملفقة لتشويه سمعة الدولة العثمانية ليبرروا التعدي عليها وتقسيم ممتلكاتها غنيمة بينهم من جانب، ولتحقيق أطماع اليهود في إيجاد موضع استيطان كنواة لدولتهم، حيث عارض السلطان عبدالحميد في الموافقة على إعطاء وعد بذلك على أرض فلسطين لتكون مقراً لدولة اليهود.
– إلى غير ذلك مما يلمسه من يتتبع دراساتهم وتحليلاتهم عن مجريات الأحداث التاريخية، وآراءهم في وقائع الأمة الإِسلامية، ونظرتهم إلى المجتمعات الإِسلامية مبثوثة في وسائل الثقافة المختلفة.. وتطرح أمام الشباب شبهات تشكك، أو ثقافة مدسوسة. فيجب تهيئة النفس لإِدراك كل ما يطرح، وتحضير الإِجابة المسكتة من المعلومات الصحيحة الكاشفة لما وضعوه.
ولن يكون الجواب مهيئاً إلا بثقافة جيدة في التاريخ الإِسلامي، ومعرفة حقيقية لتراث الإِسلام ومكانة رجالات الأمة، وذلك بتوسيع المدارك، واستقصاء المعلومات والسؤال والمناقشة. فثقافة الشاب ليست حصيلة يوم أو يومين، ولكنها مرحلة طويلة تحتاج إلى صبر واستيعاب، وحسن اختيار، حتى لا يضيع العمر في أمور غير نافعة.. وإن من نباهة الشاب أن يكثر المساءلة عن النافع مع من تقدموه عمراً وعلماً وتخصصاً.. فالعلم لا يناله مستحٍٍ ولا متكبّر.
5 – محاربة اللغة العربية بمحاولة نزعها من ديار الإِسلام وتجسيم صعوبتها نطقاً وإدراكها فهماً، وذلك لأنها لغة القرآن الكريم، الرابط المتين بين المسلمين في أي مكان. واستبدالها بلغة المستعمر بحجة الضرورة للتنظيم وسهولة التفاهم والتخاطب، مع الاهتمام باللهجات المحلية، وتنمية العامية في ديار العرب، حتى ينفصم الشباب المسلم في كل مكان من إدراك المعاني العميقة في دينهم، فيسهل توجيههم إلى كل ما يريده الأعداء من ثقافات وعلوم، وربطهم فكرياً باللغة التي فرضت عليهم، كما يتيح هذا العمل فرصة لدخول التبشير في صفوفهم لخلو الأذهان من السلاح المضاد.
ولقد بلغ الأمر في صرف الشباب عن اللغة العربية إلى إيجاد جوائز للآداب الشعبية والأدب العامي، وتشجيع هؤلاء الشباب بتنظيم اهتمامات علمية بالدراسة والتأليف في اللهجات وخلفياتها، وجائزة سعيد عقل نموذج لذلك.
وقد ظهر مثل هذا العمل مصاحباً لإِثارة النعرات الإِقليمية والقبلية في كثير من ديار الإِسلام، فوجد من يتعصب للعامية، وينمي آدابها ولهجاتها، ويهتم بجذورها، ويدعو إلى التخاطب بها والكتابة بها.
كما وجد من يدعو إلى استبدال الحروف العربية بالكتابة، إلى الحروف اللاتينية حيث نجح عملهم هذا في تركيا وأندونيسيا وغيرهما، باستبدال الحرف العربي الذي كانت تكتب به هذه اللغات إلى الحروف الإِفرنجية.
كما حرصت كل أمة من الأمم على إنشاء معاهد لتسهّل بذلك دراسة لغاتها في ديار الإِسلام، ويسّرتْ على الشباب هذه الدراسة وما تتطلبه من كتب وأجهزة وتبسيط في التعليم، سواء في بلد الشاب أو في بلد الدولة الأم لهذه اللغة، ثم تحبيبهم في هذه اللغة التي ارتبطوا بها: محادثة وكتابة وسماعاً بتوفير كل الأسباب الرابطة للشاب بهذه اللغة بالإِهداء أو تسهيل مهمة السفر، أو بالمغريات الأخرى، والمتابعة بعد ذلك، أو بوسائل الإِعلام.
وهذا كله من أجل إضعاف صلة الشاب باللغة العربية لغة الدين والثقافة، لغة القرآن والنور اليقين، ليتجزأ العالم الإِسلامي، وليضعف الرابط المتين، الذي يشده للوحدة والتماسك.
ثم يسلكون طرقاً أخرى في تجسيم صعوبة قواعد العربية وفروعها وألفاظها. وعدم القدرة على استيعابها، وأن الواجب ترك ذلك لأهل الاختصاص مستشهدين على ذلك بحالات شاذة في هذا الصدد كقرينة على ما أرادوه.
ذلك أن من كَلُفَ بشيء اهتم به، ومن اهتم بشيء أنساه ما سواه، وهدفهم الاهتمام بلغاتهم لربط شباب المسلمين بثقافاتهم وأفكارهم، وإنسائهم ما له صلة بدينهم، وجذور تاريخهم وأمجادهم.
وهم في هذا التوجيه يتحصلون على هدفين رئيسين:
1 – تفريغ العقول من الأمور الهامة التي تربط بالدين الإِسلامي.
2 – سهولة جذب شباب المسلمين إلى معتقداتهم وأفكارهم.
والثاني لا يتحقق إلا بالأول، وهم في غزوهم هذا لا يطمعون في تحويل الجيل الأول من المسلمين إلى معتقداتهم، لأن هذا مستحيل حسبما أدركوه عملياً، وهو مصداق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي والنسائي، وجاء فيه أن المسلم لا يرجع للكفر بعد أن أنقذه الله منه، حتى يعود اللبن في الضرع.
فقد قال أحد المنصرين[14] إنه لا يشرفنا أن يدخل المسلم في المسيحية بعد أن ترك دينه الإِسلامي، لأن من ترك دينه لا خير فيه، ولكن أهم ما يجب عمله هو أن نشكك المسلم في دينه، حتى يكون خالياً من الدين، ثم نجذب الجيل الثاني بعد ذلك لديننا.
6 – تسليط المغريات والترغيب في الملذات: وهذا مدخل من مداخل الشيطان حيث يسلط أعوانه لاقتناص الفرص لمعرفة نقاط ضعف النفس البشرية، وإيقاعها في الموبقات التي نهى الله عنها فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأن الجنة حفت بالمكاره، وأن النار حفت بالشهوات[15] ونحمد الله أن ديننا الإِسلامي لم ينه عن الزينة، ولا عن التمتع بالطيبات من الرزق، ولم يأمر الله المسلم بترك الحلال مهما كان نوعه، أو الزهادة فيه مادام مصدره طيباً، ولا يتعارض مع نص شرعي بالتحريم أو الإِباحة كما قال جل وعلا: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}[16].
ويأتي من تسليط المغريات، ترغيب الشباب في الغناء والرقص، وربطهم بالموسيقى والتصوير وغيرها، بحجة أنها مواهب يجب أن تنمَّى، وطاقات يجب الاستفادة منها، تقليداً لما هو سائد في بلاد غير المسلمين، فهم لا يرِّغبون في الحلال وإنما يدفعون بالمغريات، ويحببونها إلى النفوس لتأنس إليها، وترتاح لعملها بأساليب مختلفة، لتقع فيما حرم الله، وفيما نهى عنه شرعه الذي شرع لعباده، والتماس الأعذار والتسويفات لإِماتة القلوب، حتى لا تبتئس بما تعمل، ويقل إحساسها عما فعلته، ومن ذلك قولهم بأن الموسيقى تفيد في علاج بعض المرضى، وتعين النساء على تسهيل الولادة وغير هذا مما نسمعه ونقرؤه في بحوث، يلمس منها تحليل ما حرم الله من الشهوات وتهوين عقابها. ولاشك أن النفوس قد حبب إليها كل شيء ممنوع، ويكون لطعمهِ مذاق خاص، إذا تعاون على ترغيبه في النفس الأعداء الثلاثة: النفس الأمارة بالسوء، والهوى الذي يعمي ويصم، والشيطان الذي نذر نفسه لإِغواء الإِنسان، وإبعاده عن طريق الرشاد والفلاح. وأعوان الشيطان من الإِنس أشد خطراً من جنوده من الجن؛ لأن الجن يطردهم تكرار ذكر الله، أما الإِنس فلابد من مجاهدتهم بالعلم القوي، والإِيمان الراسخ، والفهم العميق، والحجة الداحضة، وفي مقدمة ذلك مدافعة النفس ومحاسبتها، وردعها عن غيها كما قال الشاعر ((البوصيري)) في حكمته:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فإذا تعاون مع النفس والهوى والشيطان جماهير من البشر يسلطون غزواً من المغريات التي تتوق إليها النفوس، وسلكوا في هذا السبيل ألواناً عديدة وجذابة، وزينت المداخل لذلك بطرق متنوعة تفتح مغاليق النفس.. ثم أمام هذا لم تكن هذه النفوس محصنة بسياج إيماني يحميها، ولا بعلم قوي يوضح لها، فهي بلاشك سوف تنهار أمام المغريات، وتجبن على الصمود أمام الملذات، وأعداء الله وأعداء أمة الإِسلام يحرصون في الدرجة الأولى على غزو الشباب بهذه المغريات، وتكسير حدة المنعة لديهم، لأنهم درع الأمة القوي وسبيل التغلغل إلى مختلف حصون المجتمع المنيعة. وما ذلك إلاّ لأنهم يهدفون من مغرياتهم تلك لأمور كثيرة منها:
– المكسب المادي: إذْ الغاية عندهم تبرر الوسيلة، وأمثال هذه الأمور ذات مردود كبير، ولذا تجد أن المخططين لها، والعاملين فيها من اليهود، سواء كانوا أفراداً أو جماعات منظمة، واليهود قد عرفوا بأنهم عباداً للمال، ولا يهمهم الطريق الموصل إليه، لأن الغاية في نظرهم تبرر الوسيلة.
– إفساد شباب المسلمين وإبعادهم عن دينهم بالانشغال بأمور ينهى الله عنها، حتى يرفع عنهم عونه وتأييده، فيسهل على العدوّ السيطرة على أمتهم من مداخل الضعف التي فتحتها المغريات والملذّات، كما جاء في الحديث القدسي: “من عصاني وهو يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني”[17].
– الهدف العقدي بإفساد الأمم.. وهذا منهج صهيوني يهودي تحركه أفكار، وتعمل فيه منظمات تبذل الكثير من ربحها في تحقيق المطلب، ذلك أن من وقع في الرذيلة لا ترتاح نفسه حتى يوقع الآخرين معه.
– التسلط والسيطرة، ولا يتحقق هذا إلا مع الهدفين الأولين، فالعقيدة غاية، والمادة وسيلة، أما التسلط والسيطرة فنتيجة لذلك.
من هنا نلمس أنهم أوجدوا لذلك في تياراتهم الموجهة مسارب عديدة، ومطايا مسرجة، كلها مهيأة للوصول للغاية المرسومة، بأساليب ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها يحمل السم الزعاف، توجه للمجتمعات الإِسلامية في كل مكان تحت غايات مختلفة مثل:
الترويح عن النفس، شغل الفراغ، التكريم، إحياء التراث، الفنون الشعبية، مسايرة الأمم الأخرى. وغير ذلك من التفنن في الأساليب المؤدية للغاية، والشباب هم أول من توجه هذه الأمور إليه، ويخاطب بها عقله قصداً، لأن انغماس الشباب مكسب للإِغواء، وطريق للموافقة عن بُعد مرماهم، ولا سبيل لإِحباط هذه الأمور، وتعثر ما أرادوه بالأمة الإِسلامية، إلا بوضع بدائل تمتص وقت الشباب، وتقضي على فراغهم، وتستهلك طاقاتهم، وتفتح آفاقاً لمواهبهم: عملاً وتسلية وإرضاء نزعات، وفي منهج الإِسلام وتنظيمه لحياة الفرد، وتوزيع الجهد بين العمل النافع، وتنمية المهارات ما يحقق الهدف الذي ينشده الحريصون على حماية شباب الإِسلام من المنزلقات. إذْ منهج ديننا بأن: صنعة في اليد أمان من الفقر، وخير العمل عمل داود، كان يأكل من عمل يده.
والتركيز على عمق دلالة هذا الحديث: الذي رواه أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيما أبلاه” أخرجه الترمذي.
وإن من سلاح الشباب في محاربة هذه الأمور، تحبيب شرع الله الذي شرع إلى نفوسهم، وتمكين العبادة من حواسهم حتى يشعروا لها بطعم خاص، كما روي عن مالك بن دينار في دعائه: اللهم أذقني حلاوة الإِيمان. فإن للإِيمان حلاوة تمد النفوس بقوة، تقف دون تقبلها لما يسلط عليها من ملذات، وما يوجه إليها من مغريات أو يحبب إليها من شهوات، والإِيمان القوي هو الذي يدفع نفوس الشباب للعمل والفهم العميق، ووضع السبل القديرة في مجابهة ما يسلط عليهم، بإدراك أبعاده والابتعاد عنها.
7 – إظهار شعارات مختلفة تتجدد في كل عصر بمسميات متباينة، بدعوى الترابط مع الإِسلام، وجذب فئة من أهله إلى دعواتهم للشعارات والمسميات والجمعيات، ذات الأهداف البعيدة: فقد لمسنا في قرننا الحاضر، بل وفي السنوات الأخيرة، دعوات جديدة للتقارب مع المسلمين، ومحاولة جذبهم إلى الزعامة اليهودية أو الزعامة النصرانية في العقيدة، وتجميع الديانات الأخرى من وثنية وإلحادية مع الإِِسلام، تحت مظلة هؤلاء تارة، وقيادة هؤلاء تارة أخرى، لإِِشعار الأمم الأخرى بأن الإِِسلام منظوٍٍ تحت تبعية هذه الزعامة لتي يتحمس لها قادتها من يهود ونصارى، وهدفهم من هذا أن يقولوا: بلسان الحال، أو منطق المقال، بأنهم على حق وغيرهم – ويعنون بهذا الغير الإِِسلام في الدرجة الأولى – على باطل، وإذا حصلت القناعة بأنه على باطل فإن أهله دعاة لهذا الباطل حسب مفهومهم، أو ما يريدون إقناع العالم به.
والشباب هم الغرض المرمي في هذا الأمر، وهم الجهة المخاطبة بما أطلق من شعارات، أو قصد من أهداف، لأن بقناعتهم يمكن بث الفكرة وترويجها، بل وإدخالها للمجتمع الإِسلامي نفسه.
ويبرز هذا الاتجاه في مؤتمرات وندوات دعي إليها كثير من المسلمين، ووجهت إعلامياً لجذب المسلمين على الخصوص، واستقطاب اتجاهات الشباب بالذات، باسم التقارب، والقضاء على المشكلات العالمية، موهمين من يخاطبون بأن المشكلات سطحية يمكن السيطرة عليها، والتغلب على مسبباتها، متناسين أن الخلاف بين هذه الطوائف وبين الإِسلام خلاف عقدي، لا ينهيه إلا إدراك مفهوم شرع الله والعمل بموجبه، وفي مقدمة ذلك إخلاص الوحدانية لله بإدراك ما تنطوي عليه كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، من عمق الدلالة، وسلامة المقصد، ونبل الاتجاه، وصدق التوجه.. وجعل الحوار للتقارب ضمن مفهومها، وعمق معناها وأن ما أحدثوه من شعارات لا تحقق شيئاً، لأنها بعيدة عن الالتقاء مع مفهوم كلمة الإِخلاص: لفظاً ومعنى، حيث برز ذلك البعد في نداءاتهم إلى:
1 – المؤمنون متحدون: وهي جماعة عالمية للمؤمنين بالله يتزعمها البابا، وقد تأسست في شهر مارس من عام 1987م بهدف جمع الديانات بما فيها الإِسلام، تحت مظلة النصرانية بزعامة البابا.
2 – اللقاء الإِبراهيمي: الذي دعا إليه قبل الجارودي – المسلم الفرنسي – يهود فرنسا، وأوروبا بتجميع الأديان في الديانة البراهيمية نسبة لإِبراهيم الخليل عليه السلام الذي يرى اليهود أنه جدهم وحدهم وليقولوا للناس بأننا الأصل فعليكم أن تتبعونا، وقد عقد في فبراير من 1987م في قرطبة بأسبانيا.
3 – صلاة البابا المشتركة التي أقيمت في قرية أسيس في 27/10/1986م، الذي اخترعوا فيه صلاة ونشيداً ليكونا مشتركين بين جميع الأديان، وفي حقيقة أمرهما أنهما على طريقة وعقيدة النصارى، وقصدهم من ذلك تحويل العالم للنصرانية بما فيهم المسلمون.
4 – نادي الشباب المتدين الذي أقيم صيف عام 1987م.
5 – جمعية ((الناس متحدون)) أقيمت في شهر ابريل سنة 1987م، وهي تالية لتأسيس الجماعة العالمية للمؤمنين بالله ((رقم واحد هنا))، التي أنشئت قبلها بشهر واحد، لتقطع الطريق على جماعة الموحدين، الذين بدأ صوتهم يرتفع في أمريكا، حيث تقارب بعضهم مع المسلمين هناك لأنهم لا يؤمنون بعقيدة التثليث.
وغير هذا من المسميات التي قصد بها عدم تنفير شباب المسلمين في صحوتهم الجديدة، حسبما يرى من تواريخ تأسيس هذه الجمعيات، التي زامنت رغبة الشباب في العالم بأسره لمعرفة دين الإِسلام والتعمق فيه، ودخول مجموعات كبيرة من شباب الغرب فيه عن قناعة ودراية، ودفاع بعض المفكرين في ديار الغرب عن وجهات نظر إسلامية ارتاحوا إليها فإذا ضمنوا مشاركة شباب وعلماء المسلمين في أمثال هذه اللقاءات التي يديرها ويوجهها مفكرون ورجال دين من اليهود والنصارى، كان هذا أكبر دليل على أحقية باطلهم الذي يدعون إليه، وأشعروا الآخرين بأسلوب عملي بعدم الفائدة من العمق في الإسلام وتعاليمه، لأنه لا خلاف بينهم وبين تعاليمه وتشريعاته.
ثم يخلصون في دعوتهم هذه إلى أن البابا، هو القادر على توجيه هذا اللقاء، وهو المهيأ له لأنه حامل رسالة السلام للبشرية جميعاً كما يقولون في ابتهالاتهم.
وبهذا الأسلوب لا يصبح شباب الإِسلام ومفكروهم أنداداً في التوجيه والمقارعة. بل أتباعاً لا يتحرجون من لقاء اليهود بل وزعماء الصهيونية، ولا من الاستفادة والتبعية من النصارى، وحملة رايات الصليب، والديانات الأخرى من وثنية وإلحادية وذلك على مستوى الأفراد ثم المؤسسات الإِسلامية.
وهذا من أول الخطوات لهدم جدار العقيدة الذي يتحصن به الشباب في ديار الإِسلام وصدق الله إذْ يقول في تصوير دخائل نفوس أهل الكتاب: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَو يُحَآجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[18].
لأنه يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون، ولأنهم لن يرضوا عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يكونوا لهم من التابعين.
ودور المفكرين والعلماء من المسلمين، إدراك هذه الحقائق، وعدم الاستسلام لما يعرضون عليهم، أو المشاركة في المناقشة الواعية لفضح أعمالهم، وإبانة وجهة نظر الإِسلام فيها، وكيفية معالجته للأمور، بما يسعد النفوس، ويعلي مكانة المجتمعات ويحقق الأمن والرفاهية للجميع في ظل عدالته، ونظرته للأمور قاطبة.
8 – إيجاد هوة بالنفرة بين الشباب: وبين علمائهم وولاة أمورهم: ويدخل في هذا حقوق الأبناء لآبائهم، وعدم امتثال الطالب توجيهات مدرِّسه، وذلك بتفسير الأمور على غير وضعها، وتجسيم الصغائر، واختلاق أشياء لا أصل لها، حتى يحدثوا هوة بين الشباب وولاة أمرهم، فيفقد التعاون، ويقل السمع والطاعة. وهذا فيه فساد للمجتمع لأنه مخالفة لمنهج القرآن الكريم، وما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بوجوب السمع والطاعة لأوامر الله، وتوجيهات رسوله وطاعة من ولاه الله أمور العباد، فانتظام الحياة الاجتماعية، والأمن لا يتمان إلا مع الانقياد الذي أمر الله به. فقد تكرر في كتاب الله الكريم، الأمر بطاعة الله، وطاعة رسوله، أكثر من عشرين مرة.. مما يدل على أهمية الطاعة ومكانتها في الإِسلام.
فولاة الأمور جعلهم الله حماة لشرعه تعليماً وتوجيهاً وقدوة وتنفيذاً. وفي كل شريعة الإِسلام يؤدي العالم والوالد والمعلم والولاة أعمالهم بأمانة وإخلاص، ومن مفهوم الشريعة أيضاً يعرف كل شاب ما يجب عليه تجاه هؤلاء من السمع والطاعة، وحسن الأدب، وأداء الواجب، وحسن الأخذ والاستجابة.
وبذلك ينتظم المجتمع وتسعد الأمة جمعاء.. لأن أمر الله واجب، والاستجابة لرسوله الكريم في دعوته من أسس الإِسلام، الذي هو الاستسلام والانقياد والعمل. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[19].
ويقول سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[20].
ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم “اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله” رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
وأعداء الله، وأعداء دينه، هم أعداء المسلمين، يريدون بعملهم الموجه ضد المسلمين بث الفوضى في المجتمع الإِسلامي، وشق عصا الجماعة، وإثارة هذا كمشكلة لدى الشباب، ليتحول مجتمعهم إلى الفوضى والبلبلة، حتى يسهل التغلغل فيه، والسيطرة عليه، عندما يبتعد أبناؤه عن أوامر ربهم، بما شرع لهم من وجوب السمع والطاعة للقيادة، والنصح لها، والتعاون معها.
وما كان ديننا الإِسلامي ليؤكد على السمع والطاعة إلا لأن قوام المجتمع وسلامته بالسمع والطاعة، فإذا كان أقل الجماعة اثنين فإنهما في السفر لابد أن يؤمرا أحدهما، وعلى الآخر السمع والطاعة، فعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم” رواه أبو داود.
كما أن هذا الدين يركز على أهمية الجماعة في الصلاة، وهي عبادة بين العبد وخالقه، فيحث على الجماعة، وأن ينقادوا مع الإِمام، يقول صلى الله عليه وسلم: “إنما جعل الإِمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً” وفي رواية فلا تختلفوا عليه. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والصلاة توطن النفوس عملياً على ما يجب أن ينقادوا فيه مع قياداتهم استسلاماً وتنفيذاً، وتعويد الأطفال عليها منذ حداثة أعمارهم تنمي عندهم الولاء والطاعة عندما يكونون شباباً، وتحبب إليهم في سن التكليف مع الحرص على فهم ما تنطوي عليه من خيرات ومصالح. فهي تؤصل الطاعة والانقياد لولي الأمر.
ووجوب التمسك ببيعة ولي الأمر والسمع والطاعة له، وعدم الخروج عليه من الأمور التي تؤصلها عقيدة الإِسلام، كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة منها حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من بايع إماماً فأعطاه صفقة يمينه وثمرة قلبه، فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر” رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه[21].
والذي يجب أن يدرك الشباب خاصة وغيرهم عامة أن لزوم الجماعة في البيئة الإِسلامية جزء من العقيدة التي يجب أن تؤصل في النفوس، حتى لو بدر من القيادة ما يكرهه المرء، مما يحرص أعداء الأمة الإِسلامية على تجسيمه سواء كان له أساس أو مختلق، مما يقصد من ورائه التفريق، وإذكاء النزاعات، وإفساد المجتمع، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من كره من أميره شيئاً فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية”[22].
ودورنا أن نتأدب بأدبه صلى الله عليه وسلم، ونتأسى بأعماله، حيث نهى أن يتحدث إليه أحد في أصحابه حتى يخرج إليهم، وقلبه سليم، ونفسه صافية، بدون حقد أو ضغينة، أما أعداء الأمة المسلمة، فهم يريدون لقلوب المسلمين أن تحمل الضغينة على العلماء، والبغضاء بعضهم لبعض، وشق عصا الطاعة لولاة الأمر حتى يفسدوا المجتمع الإِسلامي، ويبثوا الفتنة في أرجائه. وبذلك يسهل عليهم تحقيق مآربهم في البيئة الإِسلامية، من نقاط الضعف التي أوجدوا مداخلها. وإن السبيل الوحيد الذي يفسد عليهم عملهم، هو تحصّن شباب الأمة بالعلم والإِدراك وبث روح الوعي لما تنطوي عليه تعاليم الإِسلام في النفوس، حتى تقوى على التصدي لكل ما يبث، وإدراك ما يراد بأمة الإِسلام، فإذا عرف الداء، أمكن معرفة الدواء. وبذلك تتقارب النفوس، وتتحقق الألفة والمحبة بين فئات المجتمع.
9 – النزعات العقائدية: وهي مدخل دقيق من مداخل النفس وعواطفها، فالولاء العقدي جزء من أجزاء النفس المتأصلة، فكما أن النفس البشرية لا تستغني عن الهواء والماء، لأنهما أهم مقومات الحياة، فكذلك الارتباط العقدي، والولاء الوجداني من لوازم النفس. ومقومات كيانها.
والدارسون لخصائص النفوس، يدركون أهمية العقيدة، وحاجة النفس إليها. فالإِنسان يأخذها منذ حداثة سنه ممن حوله بدءاً بالأبوين، ثم بمن يرتبط به تعليماً وتقليداً. وقد فطر الله الخلق على العقيدة الصافية. كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه، أو ينصرانه”[23].
ويأتي التأثير في العقيدة للطفل، ثم الشباب اللذين هما كالصلصال القابل للتكيف على الشكل الذي يضعه فيه من يتصرف فيه – كل من يحيط بهما، ويؤثر فيهما -.
ولا وقاية تحمي الشاب من النزعات الموجهة إليه سواء كانت عقائد دينية، أو اتجاهات فكرية في شئون الحياة المختلفة إلا بتوفيق الأمة بإعطائه حصانة ضد هذه الأسلحة الموجهة إليه، كما يعطى الطفل تحصينات ضد كثير من الأمراض في سن معينة من عمره، وتحصيناته تتم في حسن التوجيه والرعاية: في البيت والمجتمع والمدرسة.
وأعداء الإِسلام يدخلون على أبنائه من طرق شتى، فيتحينون نقاط الضعف لينفذوا منها، كالشيطان الذي يحاول جذب الإِنسان إلى منهجه بقدر ما يستطيع، فإذا عجز عن الدخول من طريق الإِغواء إلى المعصية، دخل عن طريق الطاعات والعبادات، ليفسدها على صاحبها: مبالغة وإغواء وتشديداً، وتشكيكاً ووسوسة، وغير هذا من الأعمال المفسدة لجوهر العبادة، وسلامة العمل.
والذين يكيدون للإِسلام من الإِنس، يحرصون على معرفة خصائص نفوس شباب الإِسلام، باعتبارهم العمود الفقري للأمة، والوتد الذي يثبت به المبنى، فيحاولون دراسة نفسيته، وتقويم اتجاهاته، والتعمق في رغبات نفسه، لعلهم يجدون منفذاً يدخلون معه، أو نقطة ضعف تسهل عليهم غايتهم.
ودراسة نفسية الفرد المسلم، والمؤثرات فيه، كانت متأصلة لدى الغرب نحو شباب المسلمين، في محاولة لمعرفة مواطن الضعف فيهم، والنفاذ منها لبواطن عقولهم، ثم تحريك ما يضرّ بهم، ويخدم أعداءهم حتى يجدوا لأنفسهم مستقراً في ديار الإِسلام، وهيمنة ذات آثار قديمة قدم العداء بين الإِسلام والكفر، لكن الحروب الصليبية زادتها رسوخاً وإلحاحاً، ذلك أنه لم يمتد مكث الصليبيين في بلاد الشام إلا بعد إثارتهم للنزعات العقائدية. واتكائهم على فئات تنتمي للإِسلام اسماً وهي بعيدة عنه عمقاً وعملاً.. بل تطعن الإِسلام وأهله بخنجر مسموم.
وأصحاب النزعات المتعددة هم العضد المساند لأعداء الإِسلام في كل وقت وزمان، وهم الذين ثبّتوا أقدام الاستعمار في كل بلد إسلامي، أو بلد به فئات كبيرة من المسلمين في أنحاء المعمورة. والتاريخ خير شاهد على ذلك، فقد ذكر ابن تيمية رحمه الله دور أصحاب النزعات في خدمة النصارى في بلاد الشام، ومساندتهم لهم[24]. كما ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية شيئاً عمن خدموا التتار في دخول بغداد. وتقويض الخلافة الإِسلامية العباسية، والزحف على ديار الإِسلام قتلاً وتدميراً، وفي سقوط الأندلس وإقصاء الإِسلام من تلك البلاد، كان للمتعاطفين مع الإِفرنج من أصحاب النزعات أثر في فتح باب التعاون والتساهل، ثم التخاذل بعدما مكنوهم من رقاب المسلمين، كما جاء في كتب المؤرخين الغربيين، الذين نقل عنهم بول ديورانت في كتابه قصته، وكما نقل أطرافاً من ذلك محمد عبدالله عنان في كتابيه نهاية الأندلس، ودولة الإِسلام في الأندلس. وغير هذا كثير في سجلات التاريخ.
ولذا فإن الاستعمار في القرن الحاضر وما قبله، قد وجد في أصحاب المعتقدات الشاذة عن منهج الإِسلام سنداً قوياً، فأرضى لديهم نزعة حب العلو، وأمدهم بقوته، فمهدوا له السبيل للبقاء، وكانوا شوكة في جنب الإِسلام، يحركهم العدو في الاتجاه، الذي يريده ليحقق بهم غرضه، ويطعن بهم أبناء الإِسلام، ويحارب بهم مبادئ هذا الدين وشريعته.
ومع انتهاء الاستعمار العسكري جاء الاستعمار الفكري، فكانت دراساتهم تخدم ذوي النزعات العقدية، وتسهل لهم الإِثارة، لأنهم أدركوا من مضمون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة ؟ فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق ؟ فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها”. وفي رواية مالك في الموطأ بدل الغرق: “أن لا يظهر عليهم عدواً من غيرهم”[25].
ومن تحريك النزعات: سواء كانت عقدية أو قبلية، أو طائفية تشتعل فتيلة البأس، وتتوقد نار الفتنة النائمة، فيجدها أعداء الإِسلام في تحريك الأمر من وراء ستار لتكبير الصغير، وتوسيع الخرق الضيّق.
وفي هذا شق لعصا الجماعة، وخروج على أوامر الإِسلام الذي يدعو للاعتصام والتماسك. فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن عصبية الجاهلية، وعن التفاخر بالأحساب والأنساب ليجمعهم حول الإِسلام ومكانته في تأليف القلوب، وتوحيد الصفوف، والانصهار تحت قيادة واحدة، والسمع والطاعة لهذه القيادة، ضمن الإِطار الإِسلامي وفي بوتقته.
أما تحريك النزعات العقدية، فهي من الدعوات الجاهلية التي يغتنمها أعداء الأمة عندما تطغى الأثرة، وتضعف مكانة الإِسلام في القلوب: عقيدة وفهماً. ويضعف الوازع الديني بتغليب رغبات النفس على تعاليم الدين، وتقديم العاطفة والمصلحة الذاتية، على ما شرع الله، عند ذلك يصبح الإِنسان سريع التأثر، لأنه فتح على نفسه باباً يسهل الولوج معه، وثغرة تجد الأفكار والآراء طريقاً للنفاذ معها.
10 – أما التيارات الفكرية المتنوعة، ونشرها وتمجيدها، فإن مما لاشك فيه أن كل أمة من الأمم لها فكر ينبعث من عقيدتها، وما تدعو إليه من مبادئ، ووجهات نظر، وهذه الأفكار تتنوع بحسب الاتجاه الذي ينزع إليه الداعون، ولعل أهم تلك التيارات ما يرتبط بالعقيدة، وما يمس الدين الإِسلامي، وخاصة لدى أبناء المسلمين الذين درسوا في بلاد الشرق والغرب، الذين يحرص مدرسوهم على شحن أذهانهم بأفكار تشكك في قدرة الإِسلام ومناخه في التقدم العلمي والتكنولوجي، وأن خصائص النمو الاقتصادي، لا تتلاءم مع الفكر الإِسلامي، وأن السياسة والحكم، وما ينجم عن ذلك من أسس ينتظم بها المجتمع، وتساس بها الرعية، وتكافح بها الجريمة، يجب أن تكون بعيدة عن نظرة الإِِسلام وقيوداته، التي تتسم بالقسوة فيما فرض من حدود. وما يطبق على الجاني من عقوبات كقطع يد السارق، ورجم الزاني المحصن، وإتلاف كل ما حرم في الإِسلام. وهو مال أو عرض يمكن الاستفادة منه، إلى غير ذلك من أمور، يتأثر بها بعض الشباب، أو تفرض على الشاب في تعليمه أو بوسائل الإِعلام المختلفة، قبل أن تتحصن نفسه بما يعينه على مجابهة الموقف، والتصدي لمثل هذه التيارات.
وأخطر من ذلك أن يحملها شباب المسلمين لديارهم ليقنعوا بها غيرهم: فكراً مقلداً، أو ينشروها بين أضرابهم كشيء جديد وافد ليرفع المجتمع، ويعلي مكانة الأمة، وليبث ذلك كله منسوخاً من البيئة المصدرة، كأي بضاعة ذات نفع في شئون الحياة.
ولذا فإن على المهتمين بأمور الشباب، أن يسلحوهم بما يعينهم لفهم الحقيقة، وإدراك كمال الإِسلام، وشمول تعاليمه لما يصلح أحوال الناس في معاشهم ومعادهم، وأن تكامل العقيدة، مما يسمو بالنفس البشرية، إلى الإِدراك المتكامل لما في الإِسلام من حل لجميع القضايا المطروحة، إذْ قصور البعض عن تخطي العقبات المجسّمة، لم يكن من نقص في تعاليم الإِسلام، ولكنه قصور في المعرفة، وضعف في التطبيق. ذلك أن هدف الإِسلام النزوع إلى الحق، والإِرشاد إلى الطرق المؤدية إليه.
ولو مثّلنا لذلك بالحالة الاقتصادية، المبنيّة في المجتمع الغربي على الربا، والأرباح المركبة.. فإن المسلم يستطيع أن يرد عليهم عن سبب تحريمه، واعتباره محاربة لله عز وجل، ورسوله[26] المصطفى صلى الله عليه وسلم، لما فيه احتكار للمال، وإضرار بالمجتمع، وتضييق على الفقير، وزيادة فقره فقراً، وبطر للغني وزيادة غناه غنىً.
ذلك أن المال الذي ينتشر في المجتمع، ويوسّع فيه على المحتاج: إحساناً وصدقة، وإنظاراً لمن أعسر، وتشغيلاً بالأجرة والعوض وغير هذا من الأمور التي شرعها الإِسلام في التعامل، لما يجعل في المجتمع حركة، ويزيد فرص العمل، ويدخل السعادة على أسر هي في أمس الحاجة إلى التماس الطريق الشريف لكسب لقمة العيش.
وهذا ما ينظر إليه الإِسلام ويهتم به لأنه من التعاون والترابط الاجتماعي، ومن عدم نقمة الفقير على الغني، كما قال تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[27].
فالمال مال الله، والبشر مؤتمنون عليه، وجاءت شريعة الإِسلام لترسم للنفس طريقة الأمانة للتصرف في هذا المال، أخذاً وعطاء، ورأفة بالعباد، وأداء لحق الله فيه.
ولأن المال هو عصب الحياة، وشريانها النابض، كما يقول المختصون في هذا المجال، فإنه يجب أن يرسخ في أذهان الشباب، ركائز الإِسلام في تمكين قواعد التوجيه فيه، واختلاف منهجه عن نظرة الماديين، وأصحاب المبادئ الأخرى والإِبانة عن وسطية الإِسلام في تسيير المال لشئون الحياة بين المذهبين المتحكمين عالمياً اليوم: الرأسمالية والاشتراكية.. وأن تسخير المال، وتوزيعه في البيئة الإِسلامية، لم يكن خاضعاً لأنظمة بشرية، تخطئ أكثر مما تصيب، ولكنه توجيه من رب العالمين، الذي يعلم ما يصلح أحوال الناس وما يتلاءم مع متطلبات حياتهم، أو تنتظم به معيشتهم.
وما يقال عن المال، يقال مثله عن حاجة المجتمعات إلى الأمن، وعقوبة الإِسلام الشديدة والرادعة، لمن يزعزع راحة المجتمعات، أو يتعدى على الممتلكات والحرمات، إذْ الرخاء والاستقرار، واتساع الحضارة، وانتظام المعيشة وغير هذا من شئون الحياة المتعددة، لا يهدأ وضعها، ولا يفسح المجال أمامها للنمو بدون الأمن. والموجهون للشباب في المجتمع الإِسلامي، عليهم دور كبير في تلقيح أذهانهم بما يضاد تلك السموم الموجهة، وتعبئة الأوعية المتهيئة، بما يكفيها عن استقبال كل وافد، ليكون في المجتمع سدّ منيع، ضد التيارات الموجهة، وإيقاف زخرف نشرها، أو تمجيدها، بفكر أقوى، وإدراك أشمل وأصلح، والبقاء كما يقال: للأصلح. وحتى يدرك الشباب بأن فكر الإِسلام هو الأصلح، فلابد من مخاطبة عقولهم من منطوق الشبهات المطروحة، وتوضيح نظرة الإِسلام الحقيقية للأمور مقرونة بالنتائج والأسباب والمسببات، وموثقة بالبراهين والأرقام، حتى تكبر تعاليم الإِسلام في نفوسهم ويجدون ما يعينهم في دحض الفكر الوافد، المرتكز على عناصر مادية وإلحادية بحته، كإنكار ما وراء الطبيعة من العوالم، أو الفكر المنقول مع التقنية، المصحوبة بمناهجها، وأصولها المادية.
إذْ أخطر ما يواجه الشباب المسلم، وخاصة الذي يدرس في بلاد لا تدين بالإِسلام، بل تحاربه، وتحارب أفكاره، ما يجده من أفكار ونظريات علمية، تغاير الفكر الإِسلامي وحقائقه، فالطالب على مقاعد الدراسة، يتشوق لدراسة العلوم المختلفة، ويرغب في نقل التكنولوجيا إلى بلاده، لكنه يتعرض لنظريات وقوانين، قد صيغت بأسلوب إلحادي يشككه في دينه.
ولذا فإن على علماء المسلمين مسئولية كبيرة في تغيير الصياغة العلمية، بمختلف الفنون بما يتمشى مع الإِيمان الصحيح، الذي بموجبه يتنقّى فكر الشباب المسلم وتتركز مصادر الأخذ بما يطمئن على سلامة العقيدة.. وهذا ما يدعو إليه المخلصون باسم أسلحة المعرفة.
11 – أما تبني التيارات الأدبية بمذاهبها وأهدافها: فإن هذا من أخطر ما يواجه الشباب اليوم، عندما قلّدوا كل وافد، إذْ التأثير العلمي قد يكون أخف، فهو مصحوب بأمور مادية ونتائج تجريبية، لكن الأدب فكر وثقافة، ولذا نلمس في الحداثة قدحاً للتراث الإِسلامي ونعوتاً لمصادر الشريعة الإِسلامية، وإبرازاً لشخصيات عرفت من قبل بجنوحها العقدي كالحلاج والأسود العنسي ومهيار الديلمي، وميمون القداح وغيرهم حيث يرفعون من قدرهم ويعلون مكانتهم.. وكل واحد من هؤلاء وغيرهم له في التاريخ الإِسلامي سجل أسود.
حيث أطلق عليهم علماؤنا القدامى الكفر، ووصموهم بالمروق من الدين، وبانت أفكارهم الجدلية وعلاقاتهم بأديان ومعتقدات الأمم التي غلبتها الجيوش الإِسلامية، وانطوت تحت لواء الدولة التي يحكمها كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من باب محاولة إفساد الإِسلام من داخله.
وإذا كان المنتمون لهذا الخطر منذ الدولة العباسية، هم أصحاب النزعات البعيدة عن الوفاق مع تعاليم الإِسلام، ليعبروا في أدبهم عن مكنون نفوسهم، وارتباطهم بمن خلفهم، كما يلمس مثل ذلك في شعر بشار بن برد، ومحاولته الرفع من المانوية، وهي عقيدة وثنية، تمثل إله النور والظلام، وتعمده السخرية من النسب العربي، فإن مثل هذه الحركة قد كثرت في عهد المنصور وابنه المهدي، وحاربوها باسم الزندقة، وكثر المنتمون إليها، وممن قتل من الأدباء لأفكاره: بشار بن برد، وابن المقفع وصالح بن عبدالقدوس، وغيرهم..
ولذا كان مثل هذا المنهج مطية في بلاد الشرق والغرب، يعبر بها الأدباء المنفلتون من قيود الدين والأمانة عن خلجات نفوسهم، ورغباتهم الذاتية، وانتقاداتهم الاجتماعية، وانتماءاتهم الفكرية والعقدية.
ولأن عذر هؤلاء في الالتزام بمثل هذه الشهوات، فإن من سايرهم من أبناء المسلمين في اتجاهاتهم فإنهم غير معذورين، لأن لهم فكراً غير فكرهم، ومنطلقاً غير منطلقهم، وثقافة غير ثقافتهم.
واتباع بعض الشباب في ديار الإِسلام لما سار عليه أولئك، من تسخير الأدب: فكراً وأسلوباً وألفاظاً. للتعبير والدعوة عما يختلف عن منهج الإِسلام، وحرص تعاليمه على حماية الفرد، وسلامة المجتمع، لمما يضر بهما، أو يخلخل كيانهما، وهو قصور في الفهم، ونقص في الإِدراك، وتقليد جاء من غير روية، ومركب نقص، يعبر عنه صاحبه بشيء قد لا يدرك أبعاده. ومن هنا يلمس المتتبع لمسيرة بعض الشباب الأدبية؛ أفكاراً تطرح، وألفاظاً يؤتى بها، تخدم مذاهب وأهدافاً تأباها تعاليم الإِسلام، وينهى عنها شرع الله، وتتنافر مع صحيح اللغة وقواعدها.
ذلك أن من منهج شرع الله الذي شرع لعباده، ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه ضمن وصية يجب أن يأخذ بها كل مسلم، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: “كف عليك هذا.. وأشار إلى لسانه. فقال معاذ: أنحن مؤاخذون بما نقول يا رسول الله؟! فقال ثكلتك أمك يا معاذ.. وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم”.. وما يرصده القلم هو جزء من حصاد اللسان.
والذي يجب أن ينمى عند شباب المسلمين، أن الفكر يجب أن يكون مأخذه إسلامياً، ومستمداً مما يدعو إليه الدين بمصدري التشريع فيه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بما فهمه وسار عليه سلف الأمة.. وأن تكون الحصيلة الأدبية، أداة تخدم هذا الفكر، سواء كانت شعراً أو نثراً، وسواء كانت خطابة أو مشاركة كتابية.
وأن تعالج القضايا التي تمر بالفرد والجماعة، من زاوية الامتثال لذلك الشرع، وتثبيت دعائمه في النفوس. لأن القرآن الكريم، لم يكن بمعزل عن الحياة، مهما جد في كل عصر ومهما تغيّرتْ أساليب وأنماط العيش فيها، لأن الله جل وعلا يقول وقوله الحق: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[28].
وعمل الأديب في المجتمع الإِسلامي، يجب أن يكون متشبعاً بفكره، منطلقاً من أسلوب دعوته، مدافعاً عن كل دخيل على هذا المجتمع، لأن أعداء الإِسلام يحرصون على تغيير شخصية والتزام أبناء المسلمين، ويرون الأدب وسيلة من تلك الوسائل، وأقصرها منفذاً.
وإيقاف الزحف الفكري، الموجه للشباب عن طريق مسارب الأدب، يحتاج إلى تنمية الأصالة في الشباب، وربطهم بجذور لغتهم، ومكانة دينهم، وسمو تعاليمه، وشمولية فوائده، وإثبات ذلك بالوقائع والبراهين، وتعميق الجذور التراثية من نفوسهم، ذلك الوتر الذي يضرب عليه أعداؤهم ليباعدوا بينهم وبينه، وليجعلوا نفوسهم في شك من الماضي، وقدرة على تحمل الواقع بدون استناد على هذا الفكر والثقافة الوافدين إليهم من بلاد توسم بالرقي والحضارة والتقدم.
وإذا أدرك الموجهون للشباب، ثم بثوه بينهم عقيدة ومنهجاً مثل هذا النص الكريم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[29].
فإنه سيكون منهم من يدرك الحجاب الذي يجب الاحتماء به، والشخصية المستقلة التي تُحْسِنُ مجابهة تلك التيارات سواء كانت من هاتين الملتين، أم من غيرها. وأول ذلك عدم القدوة بغيرهم مظهراً وسلوكاً، وفكراً وسيرة عمل.
12 – ويأتي دور: تثبيط همم الشباب: وتشكيكهم في قدرة أمتهم الإِسلامية في مسايرة الأمم الأخرى حضارياً وعلمياً: إذْ هذا التثبيط مبعثه قصور المعرفة لدى الشباب، فمن يناقش الجاهل يغلبه، ومن يطرح شبهات على من هو خالي الوفاض، يشككه في أمره..
وشباب المسلمين الذين بهرتهم الحضارات الحديثة، وأساليب الصناعة والمخترعات، ثم بما يحجزه عنهم الغربيون والشرقيون على السواء، من أسرار العلوم والتكنولوجيا، كل هذا وأكثر منه، يدفع شباب المسلمين إلى التعلق بأولئك وفكرهم، وتبنى انتقاداتهم وتشكيكهم في قدرة الأمة المسلمة، على مسايرة هذه الأمم حضارياً وعلمياً، وذلك بوصم الإِسلام وتعاليمه بنعوث كثيرة، وبقصوره في الميدان: الاقتصادي، والقانوني، والتنظيمي، والإِعلامي وغير هذا من سبل الحياة الحاضرة.
وهذه النغمة لم تكن جديدة، بل بدأها اليهود في المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبثونها فكراً بين المشركين المعاندين للرسالة، وتشكيكاً مع بعض الصحابة في النقاش والشبهات التي تطرح.. ثم كبرت واتسع نطاقها مع الحملات الصليبية.. ولما بدأ الاستشراق يأخذ سمة الثقافة والإِفادة مع النهضة الأوروبية، ساق الحقد وسوء الفهم كثيراً من المستشرقين لينفثوا سموماً، وينشروا شبهات حول رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم، وعدم صدق دلالة ما جاءا به، والأساليب التي نظمت ذلك من حدود وزواجر.. فطرحت المسائل الكثيرة على أنها شبهات تصم الإِسلام بعدم القدرة، ورجاله القائمين عليه، وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنعوت تقلل من قدرهم، وتضعف من مكانة الاتجاه الذي ساروا إليه، والهدف الذي قصدوه.. وذلك بإطلاق المطامع الدنيوية، والرغبات الشخصية على أعمالهم، ووصمهم بالعنف والشدة، ونعت تعليم دينهم وحدوده الشرعية بالقسوة، وعدم ملاءمة العصر الذي نعيش فيه لتلك الأحكام.. ثم وضع مقاييس ومعايير تخدم هدفاً ثانوياً وقام بها رجال في مجتمعاتهم عرفوا بالظلم والشدة، كنماذج لرجال الإِسلام وتعاليمه، مع أن البون شاسع، والهدف متغاير.
فرجال الإِسلام يريدون ما عند الله، والجزاء الأوفى في الآخرة، وهؤلاء يريدون التسلط والتشفي والمتعة، والانتقام.
وفي العصر الحاضر، الذي أخذ سمة التقنين لكل نظام، والتخصص لكل فن، والتعقيد لكل أمر، يوضع أمام شباب المسلمين وجهات نظر مجسمة، عن قصور الشريعة الإِسلامية، في التكيف مع تلك النظم، وقدرتها في الصمود لتسيير الأحوال، لأنها – حسب مفهومهم – شريعة تقتصر على العبادة.
والحياة الصناعية والعلمية، وأساليب التعامل في الحضارة الراهنة، تتطلب مرونة واتساع أفق، لا يتيسر وفق تعاليم الإِسلام المحصورة في نطاق ضيق لا يستوعب شئون الحياة الحاضرة.. ولكي يجدوا لأقاويلهم مدخلاً في أذهان بعض الشباب الفارغة، فإنهم يضربون لهم الأمثال بتمرد رجال العلم والتكنولوجيا في الغرب، على الكنيسة، التي حصرتهم في نطاق ضيق، وشددت على العلم والعلماء في محاكم التفتيش إبان النهضة الأوروبية الحديثة، حتى ظهر عندهم شعار التمرد على الكنيسة ورجالها باسم: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله..
وغير هذا من نماذج وشبهات، يجدر بالموجهين للشباب الإِسلامي، أن يحصنوهم ضدها، ليدركوا، أن الدولة الإِسلامية صلحت وأصلحت المجتمعات منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى قرون متطاولة. استوعبت خلالها العلم والتقدم والحضارة، بشتى مناحيها، وسعدت المجتمعات، واستقامت أحوال الناس في معاشهم وتنظيم حياتهم، بل سعد الغرب بما أخذ من المسلمين من علوم ومعارف، وبما استفاده من تنظيم وتقنين لنواحي أعمال الحياة. ولم تقف حضارة الغرب، إلا على أسس متينة مما أرساه الإِسلام والمسلمون وما عرفت الإِنسانية منهجاً سليماً في العدالة وحسن الاستقامة، إلا تحت ظل الشريعة الإِسلامية، وقد شهد جم غفير من مفكري الغرب والشرق بمكانة الإِسلام، ودوره في إسعاد البشرية، ومنهم أديسون الذي قال: إن الإِسلام لم يكن ديناً للعرب، وإنما هو دين الإِنسانية من أقصى الأرض إلى أقصاها، ولا هو مختص بجيل دون جيل، بل هو لعامة الأجيال إلى منتهى الدهر.
ذلك أن الدين الإِسلامي يحث على العلم بجميع فروعه، وليس علم الحديث والفقه والمنطق والشرع فقط وإنما كل ما تناله الكلمة من علم الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء وجميع العلوم، والدين الإِسلامي لا يختلف هو والعلم، ولا يمكن أن يختلفا، بل الذي نعلم أن أكبر العلماء وأرسخهم علماً هم أقربهم إيماناً وخشية لله سبحانه – كما قال بذلك قبيسي -.
ويقول ماركوس دودز: ليس في الدين نفسه ما يتعارض مع التقدم العقلي، فالعقيدة التي يتمسك أتباعها بالمبدأ القائل: أوصى الله إلى رسله، تترك أوسع مجال للتفكير والتأمل، والدين الذي يخص كل جندي يقع في ميدان القتال في سبيل الله بتاج الاستشهاد، ويعلن في الوقت نفسه أن مداد العالم أغلى من دم الشهيد، ليس من العدل في شيء أن يوصم بأنه دين ظلام.
ولذا فإن الشباب في المجتمع الإِسلامي في حاجة إلى أن ينور ذهنه، وتوسع مداركه بمثل هذه الأقوال، وبما صدره كثير من مفكري الغرب، اعترافاً للحق على أنه الحق، حيث أن أمثال: كتاب: شمس العرب تسطع على الغرب للكاتبة الألمانية زيفريد هونكه، والقرآن والتوراة والإِنجيل والعلم للدكتور الفرنساوي موريس بوكاي، وروح الإِسلام للمسلم المؤرخ الهندي سيد أمير علي، والطريق إلى مكة للمسلم المجري محمد أسد، وغيرها من الكتب التي اقترن فيها الفكر بالعلم، وهذا من باب مخاطبة الناس بما يعرفون، وإلا فإن في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفهم رجال السلف الأول من هذه الأمة ما يغني ويثري: ثقافة وعلماً، وردوداً وتوضيحاً، كما كان الإِمام مالك يقول: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وفهم الشباب للإِسلام هو الذي سيصلح أحوالهم ونظراتهم للأمور، لأن بذلك العزة والارتقاء، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومتى ابتغينا العز بغيره أذلنا الله.
وإن أهم ما يقف أمام الشباب البلبلة الفكرية، ونقل الفكر إليهم مع التقنية مصحوبة بمناهجها وأصولها المادية، ذلك أن الفكر في النظريات العلمية والفيزياء، ينكر ما وراء الطبيعة، ويرتكز على عناصر مادية إلحادية بحته، حسب صياغاتها، وذلك لقلة المؤمنين في الميدان العلمي.
ويمكن للعالم المسلم تغيير تلك الصياغات بما يتمشى مع الإيمان الحقيقي، وتقديمها للشباب كمادة محببة، مرتبطة بالجذور العقدية، والأصل الإيماني في التفكر الذي أمر الله به الفئة المؤمنة، ومتأصلة في العلماء خشية لله، واعتقاداً في كمال قدرته، وإحاطته بكل شيء، وأن ما علمه البشر ما هو إلا قليل في علم الله جل وعلا، الذي وسع كل شيء علما.
ــــــــــــــــــــــ
[1] سورة التوبة آية 32.
[2] سورة ص الآيتان 82 – 83.
[3] سورة الأعراف الآيتان 16 – 17.
[4] سورة الأنعام الآية 112.
[5] اقرأ الآية 108 من سورة الأنعام والآية 46 من سورة العنكبوت، ونموذجاً من الحوار العقدي في سورة آل عمران، الآيات 18 – 32.
[6] سورة الأنعام آية 108.
[7] سورة النساء آية 87.
[8] سورة المؤمنون آية 71.
[9] سورة الأنعام آية 38.
[10] في عام 1965م – 1385هـ خرجت الطبعة الثانية من كتاب: اعرف مذهبك تأليف مارتين دودج وتعريب أحمد المصري، وفيه تعريف بـ37 مذهباً جديداً في الفكر والسياسة، ولم يذكر ما أوضحناه أعلاه منها، مما يدل على كثرة الأفكار والمذاهب، وأنها تزداد مع الأيام لأنها تنطلق من الأهواء ولابد أنها زادت بعد تأليف هذا الكتاب أضعافاً.
كما صدر في عام 1398هـ – 1978م كتاب المذاهب المعاصرة وموقف الإِسلام منها أورد فيها 15 مذهباً فكرياً وعقدياً وأبان موقف الإِسلام منها.
[11] من أراد توسعاً عن المستشرقين فليراجع بعض الكتب أمثال:
1- الإِسلام في وجه التغريب: مخططات الاستشراق والتبشير لأنور الجندي.
2- الإِسلام والمستشرقون عدد خاص من مجلة البعث الهندية رمضان عام 1402هـ.
3- الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية للدكتور قاسم السامرائي.
4- مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإِسلامية جزأين صدر عن مكتبة التربية العربي.
5- الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم للدكتور مصطفى السباعي.
6- أضواء على الاستشراق للدكتور محمد عبدالفتاح عليان.
7- الاستشراق والخلفية الفكرية للدكتور محمود حمدي زقزوق كتاب الأمة قطر.
8- السنة مع المستشرقين والمستغربين للدكتور تقي الدين الندوي.
9- معاول الهدم والتدمير في النصرانية وفي التبشير لإِبراهيم سليمان الجبهان.
10- بحث بعنوان: المستشرقون والتراث للدكتور عبدالعظيم محمود الديب حوليه جامعة قطر: كلية الشريعة والدراسات الإِسلامية ص703- 747 عام 1405هـ وغير هذا كثير.
[12] سورة البقرة آية 120.
[13] من أراد توضيحاً أكثر فليراجع ما يكتبه الدكتور علي الدفاع من مقالات عديدة في تراجم رجال الإِسلام وعلمائه.
[14] تسمية أنفسهم مبشرين غير مناسب لأن الله بعث محمداً بشيراً ونذيراً. والأفضل جعلهم منصرين لأنهم يدعون للنصرانية والله سماهم نصارى ولم يسمهم مسيحية.
[15] حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، ورواه مسلم والترمذي عن أنس بن مالك ولفظ البخاري حجبت.
[16] سورة الأعراف آية 32.
[17] يروى هذا الحديث ضمن أحاديث أهل الكتاب كما جاء: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.
[18] سورة آل عمران الآيتان 72- 73.
[19] سورة النساء آية 59.
[20] سورة الأنفال آية 46.
[21] انظر جامع الأصول في أحاديث الرسول جـ4 ص67 وهامش ص68.
[22] نفس المصدر ص69.
[23] رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد أوسع ابن عبدالبر الكلام على هذا الحديث في كتابه التقصي.
[24] راجع فتاواه الأجزاء الخاصة بالتوحيد والعقيدة.
[25] الحديث سبق تخريجه.
[26] اقرأ آيات الربا في سورة البقرة من 275- 279.
[27] سورة الزخرف آية 32.
[28] سورة الأنعام آية 38.
[29] سورة البقرة آية 120