منوعات

الاقتصاد عصب الحياه وشريانها

 

خالد محمود عبد القوي  رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى

 

مما لا شك فيه أن الصناعة تعتبر عصب الحياة وشريانها الاقتصادي، وبها يقاس مدى تقدم الأمم ورقيها.وما الصناعات الحرفية إلا جزء مهما من تلك الصناعات بل وأساسها في حقيقة الأمر فهي موروث حضاري وثقافي واجتماعي عريق تتوارثه الأجيال المتعاقبة، أبا عن جد، لذا كان من الأهمية بمكان أن تحظى هذه الحرف بقدر وافر من التقدير والإعزاز لما سطره السلف الصالح من إبداعات جميلة استوحاها من واقع حاجته اليومية والمعيشية.

ويمكن للوقف الإسلامي أن يلعب دوراً مهماً في أن تستعيد هذه الموروثات العريقة دورها ومكانتها الاجتماعية والاقتصادية وأن تبني لنفسها مكانة مناسبة بين سائر الحرف على المستويين الإقليمي والدولي وأن تلعب دوراً ورافداً في نمو الاقتصاد الوطني.

فنظام الوقف من النظم الدينية التي أصبحت في ظل الإسلام مؤسسة عظمى لها أبعاد متشعبة دينية واجتماعية واقتصادية وثقافية وإنسانية، كانت هذه المؤسسة في ظل الحضارة الإسلامية تجسيداً حياً للسماحة والعطاء والتضامن والتكافل، غطت أنشطتها سائر أوجه الحياة الاجتماعية وامتدت لتشمل المساجد والمرافق التابعة لها والدعوة والجهاد في سبيل الله، والمدارس ودور العلم والمكتبات، والمؤسسات الخيرية، وكفالة الضعفاء والفقراء والمساكين والأرامل، والمؤسسات الصحية. ونظراً لما لهذه الصناعات من أهمية سواء من الناحية التاريخية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية فهذه محاولة لإلقاء الضوء على دور الوقف الإسلامي في تمويل الصناعات الحرفية وتنميتها لتكون رافداً في الاقتصاد وعدم اندثارها بما يسهم في نقل الخبرة إلى أجيال الشباب والشابات.

فقد كان للوقف ولا زال دوراً اقتصادياً عظيماً، فمن خلاله يتم توفير الحاجات الأساسية للفقراء من ملبس وغذاء ومأوى وتوفير عدد من السلع والخدمات العامة مثل التعليم والصحة كما سبقت الإشارة وهذا ينعكس بصورة مباشرة في تنمية القوى البشرية ويطور قدراتها بحيث تزيد انتاجيتها مما يحقق زيادة كمية ونوعية في عوامل الإنتاج.

من ناحية أخرى يؤدى ذلك إلى التخفيف عن كاهل الموازنة العامة للدولة بحيث تخصص الأموال التي كان يجب أن تنفق على هذه المجالات إلى مجالات أخرى، ويعنى ذلك أيضاً ضمان كفاءة توزيع الموارد المتاحة بحيث لا تتركز الثروة في أيدي فئة بعينها مما يعنى تضييق الفروق بين الطبقات، حيث يساهم الوقف بهذه الطريقة في زيادة الموارد المتاحة للفقراء بما يرفع مستوى معيشتهم ويقلل الفجوة بينهم وبين الأغنياء.

أيضاً يساهم الوقف في زيادة الادخار، فهو يمثل نوعاً من الادخار؛ لأنه يحبس جزء من الموارد عن الاستهلاك فضلاً عن أنه لا يترك الثروة المحبوسة عاطلة، وإنما يوظفها وينفق صافى ريعها (بعد استقطاع تكاليف الصيانة والإحلال) في الغرض المخصص له.

أيضاً يساهم الوقف في توفير عدد من الوظائف من خلال النظار والموظفين والمشرفين ونحوهم في المؤسسات الوقفية والمساجد ونحوها وهو عدد كبير لا يستهان به، مما يساهم في زيادة المتخصصين في تلك المجالات وتطور قدراتهم، ويساعد الوقف في تمويل الصناعات الحرفية على إتاحة المزيد من فرص العمل واستغلال الثروات المحلية وزيادة الإنتاج وزيادة الدخول، وبالتالي زيادة كل من الادخار والاستثمار.

وتعمل هذه المشروعات على إتاحة مزيد من السلع والخدمات مما يؤدى إلى مزيد من الرفاهية وتحسين مستوى المعيشة وزيادة القدرات التصديرية.

والحِرفةُ في اللغة (كما في لسان العرب) هو اسم من الاحتِرافِ وهو الاكْتِسابُ؛ يقال:هو يَحْرِفُ لعِيالِه ويحترف ويَقْرِشُ ويَقْتَرِشُ بمعنى يكتسب من ههنا وههنا، والـمُحْتَرِفُ: الصانِعُ. والحِرْفةُ الصِّناعةُ. وحِرفةُ الرجلِ: ضَيْعَتُه أَو صَنْعَتُه. وحَرَفَ لأَهْلِه واحْتَرَف: كسَب وطلَب واحْتالَ، وقيل: الاحْتِرافُ الاكْتِسابُ، أَيّاً كان. وقد عَرَّفت اليونسكو الحرف والصناعات اليدوية بأنها ” تعبير حقيقي عن التقاليد الحية للإنسان تتجلى فيه الأسس الثلاثة للتنمية المستديمة والقيم الإنسانية وهي: التكيف والتجديد والإبداع”. ودعت اليونسكو في هذا الصدد إلى الاعتراف بأهمية دور الحرفيين المبدعين ومنتجي المواد الحرفية، ففي شتى أنحاء العالم يبتكر الحرفيون مصنوعات تنسجم مع الطبيعة وتشكل جزءًا مهمًا من الحياة اليومية للأفراد والمجتمع.

وقد حث النبي الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم- على العمل والكسب من عمل اليد حيث قال: (( لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه)). (صحيح البخاري) وفي المستدرك عن ابن عباس – رضي الله عنهما -: (( كان داود زراداً، وكان آدم حرَّاثاً، وكان نوح نجاراً، وكان إدريس خياطاً، وكان موسى راعياً)) – عليهم السلام -، وكان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يخصفُ نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته، كما عمل برعي الغنم كما ثبت في صحيح البخاري وأيضا عمل بالتجارة بأموال السيدة خديجة – رضي الله عنه – مضاربة. ومن تعظيم الله أمر العمل والصناعة باليد ما رواه كعب بن عجرة – رضي الله عنه – قال: ” مر على النبي رجل فرأى أصحاب النبي من جلده ونشاطه ما أعجبهم، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله: ((إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء وتفاخرا فهو في سبيل الشيطان)) رواه الطبراني وصححه الألباني.

والصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار كانوا يعملون في أمر معاشهم، ولم يكنوا بطالين، بل كانوا أصحاب مهن وحرف، فمنهم اللحام والجزار والبزاز والحداد، والخياط والنساج والنجار والحجام، وقد احترف التجارة منهم ناسٌ براً وبحراً.

وتساعد الصناعات الحرفية على الحد من البطالة والاستفادة من كافة الموارد البشرية سواء الذكور والإناث الذين يستطيعون أداء بعض الأعمال في بيوتهم أو في محيطهن كذلك يمكن لكبار السن والمعوقين وغيرهم المشاركة في العملية الإنتاجية في سكناهم مما يعطي مصدراً للدخل بالإضافة إلى رفع المعنويات.

وعلى ذلك فلهذه الصناعات أهمية الاقتصادية كبيرة تكمن في:

1-أنها تساعد على إيجاد فرص وظيفية بالنظر إلى نسبة تخصيص الموارد والحاجة إلى تعليم بسيط وبالتالي تتمكن حتى ربة البيت من ممارسة الحرفة.

2-توفر الخامات وبالتالي تساعد على الاستفادة منها.

3-توفر فرصاً للتدريب أثناء العمل ومما يساعد على ذلك أن التقنيات ليست صعبة الاستيعاب.

4-توفر توازن في التخطيط والتنمية بين المناطق المدنية والريفية وذلك لتعميم انتشارها.

5-تمكين تحقيق متطلب المستهلك من المنتج نظراً لإمكانية التعامل مع الخامات.

وقطاع الصناعة التقليدية يعد من الركائز الأساسية للتنمية في الوطن العربي باعتباره قطاعا مشغلا، له مساهماته في الناتج القومي، كما أنه يعتبر قطاعا محوريا في دعم وإنعاش النشاط السياحي في العديد من الدول العربية، فضلا عن أنه يشكل خزانا حقيقيا للتراث الحرفي والمهارات الفنية التي أفرزتها الحضارات العربية على مر العصور، وإننا جميعا مطالبون بحماية هذه الثروات الوطنية والمحافظة عليها، مع جعلها قادرة على مواكبة الحداثة.

ولبلوغ هذه الغاية وضمان حماية لإبداعات الصناعة التقليدية العربية، وكثيرًا ما يفتقر هؤلاء الحرفيون للإمكانات التي تمكنهم من تطوير أساليب إنتاجهم والترويج لمنتجاتهم، وهم لا يستفيدون من شروط التمويل، ولا من المزايا الاجتماعية، مع أن منتجاتهم تستخدم في الحياة اليومية، وتتميز بجمالها وتنعكس فيها بهجة المجتمع وحيويته، فالحرفيون في المجتمع بمثابة مؤسسة حية مؤتمنة على دراياته ومهاراته، كما ترى اليونسكو أن الحرفيين يحق لهم أن يجنوا ثمار عملهم المتولد من خبراتهم الكبيرة المتراكمة على مر السنين، ويجب الدفاع عن مصالحهم في المناسبات الوطنية ذات العلاقة بالتخطيط ورسم السياسات الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية التي تخص مجال أنشطتهم الحرفية.

ويمكن أن يسهم الوقف في تمويل الصناعات الحرفية من خلال الصناديق الوقفية المتخصصة في تمويل هذا النشاط، بواسطة تبرعات صغيرة(صكوك الوقف) والتي يمكن أن تخصص لإنشاء وقفيات تبعا للأغراض التي يبتغيها الواقفون وكذا التوسع في إصدار الصكوك الوقفية تمكينا لذوي الدخل المحدود من إحياء سنة الوقف ونيل ثوابه بوقف ما يدخل تحت طاقتهم المالية ووضع الضوابط الشرعية لإصدار وتسويق وتداول واستثمار الصكوك الوقفية بما يزيد من ثقة الناس وإنفاق ريع كل صندوق في مجال البر الذي يختاره المشاركون فيه والتنسيق بين الصناديق الوقفية وفيما بينها وبين المؤسسات ذات الصلة وفيما بينها وبين أجهزة الدولة المعنية وان يكون الوقف احد المصادر الرئيسية لتمويل الجمعيات الخيرية وسائر المنظمات غير الحكومية والاستغناء به عن الدعم الخارجي الذي لا يتلاءم مع مقاصدها.

فالصناديق الوقفية هي إحدى الصيغ المعاصرة بغرض التوصل إلى صيغ ناجحة لإدارة أموال الأوقاف، وتقوم فكرتها على إنشاء إدارات متخصصة كل منها يقوم برعاية وخدمة غرض مجتمعي وخدمي يدخل ضمن وجوه البر ذات النفع العام للمجتمع بكامله أو شريحة من شرائحه، وأنشطة إدارة كل صندوق تنحصر في الدعوة إلى وقف الأموال لصالح أغراضه، ثم استعمال إيراداته مما خصص له من أوقاف ومن المصادر الأخرى في الإنفاق على ما حدد الصندوق من أغراض البر.

والصندوق الوقفي هو وعاء تجتمع فيه أموال موقوفة تستخدم لشراء عقارات وممتلكات وأسهم وأصول متنوعة تدار على صفة محفظة استثمارية لتحقيق أعلى عائد ممكن ضمن مقدار المخاطر المقبول.

والصندوق يبقى ذا صفة مالية إذ أن شراء العقارات والأسهم والأصول المختلفة وتمويل العمليات التجارية لا يغير من طبيعة هذا الصندوق؛ لأن كل ذلك إنما هو استثمار لتحقيق العائد للصندوق.

فليست العقارات ذاتها هي الوقف ولا الأسهم، ومن ثم فان محتويات هذا الصندوق ليست ثابتة بل تتغير بحسب سياسة إدارة الصندوق، ويعبر عن الصندوق دائماً بالقيمة الكلية لمحتوياته التي تمثل مبلغاً نقدياً، وهذا المبلغ هو الوقف وهو بمثابة العين التي جرى تحبيسها، والأموال في الصندوق مقسمة إلى حصص صغيرة تكون في متناول الأفراد من المسلمين الراغبين في الوقف. ويستفيد الصندوق الوقفي من ميزات التنويع والإدارة المتخصصة بطريقة مشابهة لصناديق الاستثمار، وتوجه عوائد الصندوق إلى أغراض الوقف المحددة في وثيقة الاشتراك في الصندوق تحت إشراف ناظر الوقف ويكون للصندوق شخصية اعتبارية إذ يسجل على صفة وقف، فالصندوق الوقفي إذن هو وقف نقدي.

وتجدر الإشارة إلى أن الفقهاء اختلفوا في جواز وقف النقود، فأجازه البعض وقال بعضهم لا يجوز. إن تعبئة تبرعات صغيرة(صكوك الوقف) والتي يمكن أن تخصص لإنشاء وقفيات لتنمية وتمويل الحرف هدفاً يستحق تضافر الجهود الوطنية في إطار تعبئة وتحقيق استخدام أفضل للموارد المحلية، ويتطلب ذلك سياسات فعالة لتسهيل هذه العملية، كما أن حجم الاستثمارات التي يمكن أن يحققها المجتمع يتوقف لدرجة كبيرة على عوامل تنظيمية لها أثرها البالغ والهام في تكوين هذه المدخرات، ومن ثم في توفير الموارد التي تمول هذه الاستثمارات، وهذه العوامل التنظيمية لا تتصل بالجوانب الاقتصادية وحدها، ولكن تنصب على الجوانب الاجتماعية والسياسية في المجتمع، من أجل ذلك فإن نشر هذا الوعي ليس بالضرورة قضية اقتصادية وحسب، بل هو ضرورة اجتماعية وسياسية أيضا تستهدف إعادة صياغة مفاهيم الأفراد واتجاهاتهم، إلا أن مشكلة خلق الوعي التوظيف في هذه التبرعات يتطلب خطة قومية تقوم على أسس تربوية وإعلامية تغرس مفاهيم التكافل، وأهميته في التنمية لدى الأجيال الناشئة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى