مقالات
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الفرق بين التقليد والإتباع
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الفرق بين التقليد والإتباع
بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الاتباع: أصله من تبع – محركة – وهو أصل يدل على التِّلو والقَفْو، ومنه يقال: تبعت فلانًا إذا تلوته واتبعته، وأتبعته: إذا لحقته، واتبعه إذا مشى خلفه، ومنه يقال للظل: تابع؛ لأنه تابع أبدًا للشخص، والتبيع: ولد البقرة إذا اتبع أمه، والتبيع: النصير؛ لأنه يتبعه نصره، وتبعه في كذا: إذا وافَقه عليه[1].
فالاتباع على هذا في اللغة يطلق على من لحق غيره واقتفى أثره؛ ولذلك يطلق على مَن هم بعد الصحابة: “التابعين”؛ لأنهم اقتفَوْا أثر مَن سبقهم، وساروا على طريقتهم.
ويلاحظ من هذا أن التقليد والاتباع بينهما تقارب من جهة اللغة؛ إذ هما يشتركان في اقتفاء أثر شخص آخر، وإن كانا أيضًا يفترقان من حيث إن التقليد أعمق في الاقتداء أحيانًا؛ فهو تعليق لرأي المقلد على من قلده دون أن يكون للمقلد أثر أو معرفة، بخلاف الاتباع، كما يبدو من التعريف السابق في اللغة؛ إذ فيه نوع استبصار ومعرفة، ولأجل هذا اختلف العلماء في التقليد والاتباع هل بينهما فرق في الاصطلاح أو لا؟
وللشاطبي رأيه في هذه المسألة، وفيما يلي نبيِّن ذلك.
رأي الشَّاطبي:
الذي ظهر لي من رأي الشَّاطبي هو أنه لا يفرق بينهما في الإطلاق، فهو يطلق على التقليد اتباعًا، وعلى الاتباع تقليدًا، ويتضح ذلك بأن الشَّاطبي يطلق لفظة الاتباع والتقليد على التقليد الجائز، وعلى التقليد المذموم، قال الشَّاطبي عن العامي: “.. وإذا ثبت أنه لا يقلد إلا واحدًا”[2]، ويقول: “فإذًا لا يقلد إلا باعتبار كونه حاكمًا بالعلم الحاكم”[3]، ويقول عن طالب العلم المقلد: “وإنما هم في طلبه في رتبة التقليد”[4]، ويقول: “المقلد ينظر أي مذهب أوفق لمقاصد الشرع فيتبعه”[5]، وقد سمى الشَّاطبي نفسه مقلدًا، فقال: “ليس إلينا معشر المقلدين، فحسبُنا فهمُ أقوال العلماء والفتوى بالمشهور منها …”[6]، ويقول: “وأنا لا أستحلُّ – إن شاء الله – في دِين الله وأمانته أن أجد قولين في المذهب، فأفتي بأحدهما على التخيير، مع أني مقلد، بل أتحرى ما هو المشهور والمعمول به …”[7]، فهو في هذه النصوص قد سمى تقليد المجتهد مع التبصر تقليدًا، كما أنه يسميه اتباعًا؛ يقول الشَّاطبي: “والعامي إنما اتبع المجتهد من جهة توجُّهه إلى صوب العلم الحاكم”[8]، ويقول: “لا يُتَّبَع أحدٌ من العلماء إلا مِن حيث هو متوجِّه نحو الشريعة، قائم بحجتها”[9]، وفي هذين النصين أطلق الشَّاطبي مسمى الاتباع على ما كان قد أطلق عليه مسمى التقليد.
وكما يسوي الشَّاطبي بين لفظتي الاتباع والتقليد في إطلاقهما على التقليد الجائز، فهو كذلك يسوي بينهما في إطلاقهما على التقليد المذموم؛ يقول الشَّاطبي: “فلا يتعصب لمتبوعه بالتمادي على اتباعه فيما ظهر فيه خطؤه”[10]، ويقول: “أشدها قول مَن جعل اتباع الآباء في أصل الدين هو المرجوعَ إليه دون غيره”[11].
ولو كان لا يسميه اتباعًا لأطلق التقليد في الموضعين، ولكن لما أطلق لفظة الاتباع دل على أنه يُجيز إطلاقها في هذا الموضع، ويقول الشَّاطبي: “فلما سأل عن المعبود سأل عن المعنى الخاص بالمعبود بقوله: ﴿ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ﴾ [الشعراء: 72، 73]، فحادوا عن الجواب إلى الإقرار بمجرد الاتباع للآباء”[12].
وكما أطلق الشَّاطبي على هذا النوع من التقليد المذموم اسمَ الاتباع، فهو قد أطلق اسم التقليد عليه أيضًا، قال الشَّاطبي: “ألا يصمِّمَ على تقليد مَن تبين له في تقليده الخطأ شرعًا”[13]، ويقول: “فكل من اعتمد على تقليد قول غير محقق، أو رجح بغير معنى، فقد خلع الرِّبْقة، واستند إلى غير الشرع”[14]، ويقول: “فإنْ أقدَم على تقليد أحدهما من غير مرجح، كان حكمُه حكمَ المجتهد إذا أقدم على العمل بأحد الدليلين من غير ترجُّح”[15].
وإذا تبين هذا اتضح أن الشَّاطبي لا يفرق بين التقليد والاتباع من جهة الإطلاق؛ فهو يسمي التقليد المحض اتباعًا، كما يسمي الاتباع تقليدًا، غير أنه يخص من ذلك مَن كان قوله حجةً في نفسه؛ كالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يسمِّي اقتفاءَ أثره اتباعًا لا تقليدًا.
والمتتبع لألفاظ أكثر الأصوليين يرى أنهم لا يفرقون بين التقليد والاتباع[16]، بل عرف بعضهم التقليد بالاتباع؛ كالباقلاني[17]، والجويني[18]، والسمرقندي[19]، والنسفي[20]، وصاحب الغنية[21]، واللامشي[22]، والجرجاني في أحد تعريفيه[23]، وهو المفهوم من كلام ابن تيمية[24].
وعلى هذا، فالأكثر موافقون للشاطبي في ذلك.
وخالفه في ذلك بعضهم، ففرقوا بين الاتباع والتقليد: وبه قال ابن أبي العز من الحنفية[25]، وابن خويز منداد[26]، وابن عبدالبر[27]، واختاره الشنقيطي[28] من المالكية، وابن القيم من الحنابلة[29]، وغيرهم[30]، ونقله ابن القيم عن الإمام أحمد، فقال: “وقد فرق أحمد بن التقليد والاتباع، فقال أبو داود: “سمعته يقول: “الاتباع: أن يتبع الرجلُ ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ثم هو مِن بعدُ في التابعين مخيَّر”[31]، وقال أيضًا: “لا تقلدني، ولا تقلد مالكًا، ولا الثوري، ولا الأوزاعي، وخُذْ من حيث أخذوا”، وقال: “من قلة فقه الرجل: أن يقلد دِينَه الرجال””[32].
وقال أبو عبدالله بن خويز منداد: “التقليد معناه في الشرع: الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه، وذلك ممنوع في الشريعة، والاتباع ما ثبت عليه حجة”، وقال: “كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك، فأنت مقلده، والتقليد في دين الله غير صحيح، وكل من أوجب عليك الدليلُ اتباعَ قوله، فأنت متبعه، والاتباع في الدين مسوَّغ، والتقليد ممنوع”[33].
وبوَّب ابن عبدالبر، فقال: “باب فساد التقليد ونفيه، والفرق بين التقليد والاتباع”[34].
والذي يظهر لي أن الخلاف خلاف لفظي مبنيٌّ على اصطلاحات، ولا مشاحة في الاصطلاحات، ومما يوضح ذلك: أن الجمهور – وإن لم يصرح أكثرهم – يقسمون التقليد إلى قسمين، وقد صرح بعضهم بذلك؛ كالماوردي[35]، وغيره[36].
وعلى هذا، فما يسميه أصحاب القول الثاني اتباعًا يسميه الشَّاطبي ومن وافقه تقليدًا، ولكنه تقليد جائز، وما يسميه أصحاب القول الثاني تقليدًا، هو تقليد ممنوع عند الشَّاطبي ومن وافقه.
________________________________________
[1] معجم مقايس اللغة (2/ 362) المصباح المنير (1/ 72) القاموس المحيط (911) كلاهما مادة: “تبع”.
[2] الاعتصام (2/ 504).
[3] الاعتصام (2/ 504).
[4] الموافقات (1/ 89).
[5] الموافقات (5/ 280).
[6] المعيار المعرب (11/ 103) فتاوى الإمام الشاطبي (119).
[7] المعيار المعرب (9/ 228) فتاوى الإمام الشاطبي (176).
[8] الاعتصام (2/ 503).
[9] الاعتصام (2/ 503) وانظر منه: (2/ 504 – 505).
[10] الاعتصام (2/ 505).
[11] الاعتصام (2/ 506).
[12] الموافقات (5/ 410).
[13] الاعتصام (2/ 504).
[14] الاعتصام (2/ 401).
[15] الاعتصام (1/ 276).
[16] انظر مثلًا: التلخيص (3/ 439 – 440) المنخول (583) رسالة في أصول الفقه (131 – 132).
[17] انظر: البحر المحيط (6/ 274).
[18] انظر: التلخيص (3/ 425).
[19] انظر: ميزان الأصول (2/ 950).
[20] انظر: كشف الأسرار على المنار (2/ 172 – 173).
[21] انظر: الغنية (197).
[22] انظر: كتاب في أصول الفقه (200).
[23] انظر: التعريفات (90).
[24] انظر: مجموع الفتاوى (20/ 16).
[25] انظر: الاتباع لابن أبي العز (23).
[26] انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 117) إعلام الموقعين (2/ 137).
[27] انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 109).
[28] انظر: أضواء البيان (7/ 547).
[29] انظر: إعلام الموقعين (2/ 137).
[30] انظر: بدعة التعصب المذهبي لمحمد عيد عباسي (33).
[31] مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود (368/ رقم 1789).
[32] إعلام الموقعين (2/ 139).
[33] جامع بيان العلم وفضله (2/ 117) إعلام الموقعين (2/ 137).
[34] جامع بيان العلم وفضله (2/ 109).
[35] انظر: الحاوي (16/ 52).
[36] انظر: مجموع الفتاوى (20/ 15 وما بعدها) إعلام الموقعين (2/ 129) الاتباع لابن أبي العز (22 – 23).