مقالات
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن فلسفة الشعر
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن فلسفة الشعر
بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن الفلسفة والفن بَحرانِ لا يَلتقيان إلَّا في برزخ فلسفة التربية؛ فالفلسفة منذ بداياتها تَعتبر أن المساس بالروح والجوهر هو مساس بالمدينة الفاضلة وجهل تجاه الذات، أمَّا الفن فهو يَسعى دائمًا إلى مخاطبة الروح وإخراجها من الذات.
وسائل هذه المخاطبة هي التي جعلت أفلاطون يحرِّم الشعر في مدينته الفاضلة، وهي إحدى محددات وصف القرآن للشعراء بأنَّهم غاوون في كلِّ وادٍ يَهيمون، وهي التي جعلَت الفلسفات الحديثة تقِف من الشعر موقف شكٍّ وارتياب؛ بل امتعاض.
ولئن كانت الفنون كلها تقوم على التصوير والخيال المحسوس، فإن الشعر يَبقى من الفنون الأكثر إثارة للجدل لدى الفلاسفة والحكماء ورجالِ الدِّين والتربية، نظرًا لخصائصه المميزة؛ فهناك من الشِّعر ما قَتَل، ومن الشِّعر ما يؤدِّي إلى الإلحاد، ومن الشِّعر ما عدَّد الآلهة، وهناك مَن يدَّعي أن معرفيَّة الخِطاب الشعري هي معرفية قائمة على الرؤية…
هناك دلائل علميَّة كثيرة يقدِّمها أنصار الاتجاه الرَّافض للشعر؛ فأفلاطون حرَّم الشعر في مدينته الفاضلة لأنَّه إذا سَيطر الشعراء والخطباء والفنانون على المدينة الفاضِلة، فإن ذلك سيؤدي حتمًا إلى كارثة إنسانيَّة، هذا الموقف الغريب لأفلاطون يثير دَهشتنا، فكيف يعقل أن تكون هناك مَدينة فاضلة دون شعراء؟
على أرض الواقع نجد أنَّ موقف أفلاطون الحكيم موقف وجيه؛ فالشِّعر اليوناني في جزء كبير منه فسَّر وجودَ الإنسان والعالم من خلال نظرية تعدُّد الآلهة ومن خلال الأساطير، هذا الشعر قدَّم لنا معرفة مخادعة أبعدَتنا عن الفِكرة وعن الوجود من خلال مَنطق الخداع؛ ففكرة تعدُّد الآلهة حسب أفلاطون هي فِكرة مِن خلق الشُّعراء، هذه الفكرة خلقت عمًى معرفيًّا حول العالم والوجود من خلال انبناء الشِّعر على الأسطورة والخيال، هذه المعرفة تنفِّر من العمليَّات الاستدلاليَّة العقلية، وتعتبر أنَّ التفكير نوع من الهمِّ.
يبدو أنَّ ما خاف منه أفلاطون على مدينته الفاضلة هو ما يقع الآن في العالم؛ فالعالم المبجَّل فنَّانوه الآن هو عالَم مليء بالفوضى والقتل المادِّي والرمزي، فالخطباء ورجال السياسة الشاعرية خطبهم هي التي تقتل الإنسانيَّة في الإنسان من خلال إخفائهم للفِكرة، وتقديمهم لواقع يُحاكي الواقع المادِّي في الشكل لا في الجوهر، والشعراء الذين ينطلِقون من السماء والأسطورةِ وتعدُّدِ الآلهة نحو الأرض، يَحجبون الرؤية عن الإنسان من خِلال إبعاد النَّاس عن الواقع والحياة؛ فهم يَرجمون الحقيقة بالغيب، ويقدِّمون متعةً حسِّية، لكنَّها غير موجودة في عالم الشهادة؛ وخير دليلٍ على ذلك القصائد الحماسيَّة التي تتقدَّم فوهات الجيوش متغنيةً بالحريَّة والإنسانية، ومستهدفة قتل الآخر وتدميره، والأناشيد الوطنيَّة المعبرة عن الحريَّة لفظًا ومعنًى القابضة على أرواح المواطنين داخِل سياج من حديد؛ فالشعر في هاته الحالات سبيل إلى استعباد الإنسان.
وأضِف إلى ذلك الإيقاعات الشاعريَّة للخطب السياسيَّة والمشاهد السينمائيَّة والإخبارية المضللة، كلها توظِّف ما هو شِعري للسيطرة على الإنسان بصيغة أو أخرى، كل هذا ينهض دليلًا على أنَّ جزءًا كبيرًا من الشِّعر يساهِم في تدمير المدينة الفاضِلة حسب أفلاطون.
لقد حرَّم أفلاطون الشعرَ؛ لأنَّه خاف على الأطفال والسكَّان من تضليل الفنانين والشعراء والخطباء… فالعمل الفنِّي يُعلي من شأن المحسوس وليس المعقول، ونظرًا لكون الفنَّان والحكيم يدافِعان عن مشروعين مختلفين، لكن أفلاطون يعتبر أنَّ المشكل ليس في الفنِّ في حدِّ ذاته؛ وإنَّما في آليَّات استعماله، فإذا كنا قادرين على الاستفادة من الفنِّ، فإنَّه سيفيدنا، والعكس ينطبق؛ لذلك يجب أن نوظِّفه في التربية والتنشئة التي تربِّي الإنسان في الإنسان، وتنمِّي الذَّوق الجيد لدى الفرد، وهذه مهمَّة لا يتجشَّمها إلَّا شاعر مقتدر وملتزم تجاه القضايا الإنسانية، الشاعر الذي يَنطلق من الأرض نحو السماء وعالم الروح والجوهر.
إنَّ هذا التصور الفلسفي التربوي لفنِّ الشعر يجعلنا نعيد النظرَ إليه على اعتبار أنَّه حالة وسط بين الوجود والعدم؛ لأنَّه يرتبط بالروح، وبالتالي فإنَّه إذا خادَع الروح فإنَّه سيخلق لدى الإنسان جهلًا تجاه ذاته، وسيسجنه داخل سجن الغرائز والمادَّة.
هذا الموقف الأفلاطوني الرَّافض للشِّعر غير الملتزم بقضايا المدينة الفاضِلة، نجده أيضًا عند الكثير من النقَّاد؛ فصاحب “عِيار الشِّعر” وصاحب “الشعر والشعراء”، وكل مَن لفَّ لفهم من أتباع النَّقد الأخلاقي – اعتَبروا أنَّ قوة وجمالية الشِّعر تكمن في مطابقة موضوعه للقِيَم والأخلاق المثلى، أمَّا الوزن والإيقاع، فهما من مميزات الشِّعر على قسيمه النَّثر.
والرَّاجح لديَّ أنَّ قول ابن رشيق بأن أساس الشِّعر النيَّة يوحي بأنَّ جمالية المقصد ومثاليَّته هي أساس نَظم الشعر الجيد والملتزم، فإذا كان أَعذب الشِّعر أكذبه؛ فإن أحسن الشِّعر أصدقه، والصِّدق والعذوبة هنا تَرتبطان بخِطاب العقل والقلب، إلا أنَّ العذوبة هنا لا قيمة لها؛ لقيامها على الكذب.
نأخذ فسحة هاهنا مع صاحِب رسالة الغفران؛ للتعرُّف على الأبعاد الخطيرة للشِّعر في حياة الإنسان، وتربيته أخلاقيًّا وإنسانيًّا، إن المَشاهد التي نَقلها لنا ابن القارح عن مَصير الشُّعراء في الجنَّة والنار، تقدِّم لنا أدلَّةً على كون الشِّعر عمَل يُكبكِبُ صاحبَه في النار، أو يطير به إلى عالم الجِنان، وما أكثر المكبكَبين من الشعراء.
هنالك في الجحيم نجِد إبليس إلى جانب بشار مصفَّدينِ في الأغلال، أمَّا امرؤ القيس وعنترة، فيتأفَّفان من النار وسعيرها، وعلى الجانب الآخر في النَّعيم نجِد شعراءَ الحِكمة متَّكئين على الأرائك.
قد يَخطر على ذِهننا أنَّها قِسمة ضيزى، لكن بمَنطق الثالث المرفوع والعلَّة والسببية؛ سنجد الأوائلَ كُبكبوا لأنَّهم أفسدوا الخلقَ بفاسد نَظمِهم، وبغياب الجانب الأخلاقي التَّربوي، وغلوهم في الصور وفي المدح، ولنا أن نَقيس عليهم من الشُّعراء المعاصرين أولئك الذين يخادِعون العقولَ والأرواح بجميل النَّظم وزخرف القول دون مراعاة سموِّ رسالة الشِّعر إلى تطهير الروح ومحاكاة عالم الجمال والأرواح.
إنَّ الشاعر في هذه الحالة لا يَعرف طريقَ الحقيقة والحب والجمال؛ لأن الحسَّ لديه لا يتجاوز الجسدَ كمادَّة، ولا يحرِّك في الإنسان السعي إلى الفضيلة؛ فشعر امرئ القيس كله وَصف وتجييش للغرائز إلَّا ما ندر، وقِس عليه شعراء الماورائيات والمابعديات واللاهوت والناسوت وأساطير الأولين.
إنَّ الشعر في هذه الحالة يتحدَّث عن المعرفة كما لو أنَّها تجربة، لكنَّه في الواقع يعيش نوعًا من الخيال المرَضي والإبداع المرَضي اللذين يَحجبان عنه رؤية الأشياء الجميلة، فالشيء الجميل يَحتاج إلى شَكل جميل لكي تتفتَّق منه الحياة رتقًا رتقًا.
وهذا الضرب من الشِّعر الناتج عن أضغاث الأحلام، لا يَصلح لتربية النَّشء، ولا لإصلاح المدينة الفاضلة؛ لأنه يُخفي الواقعَ والحقيقة خلف حِجاب الصور، ويرجم المعرفة بالغيب.
هناك نوع آخر من الشِّعر الملتزم الذي يسهِم في تربية الإنسان في الإنسان، هذا الشعر يعتبر أنَّ الحبَّ والفضيلة هما الجِسر الوحيد الذي يَسمح لنا بالانتقال من عالَم الأبدان إلى عالم الأرواح، هنا يصبح الجمال مجرَّد مؤشِّر دال على الفضيلة والقِيم المثلى، وبالتالي تنتفي المسافة بين غرائز البدن وفضائل الروح.
وعلى الرغم من كون لعبة الإيهام بين الشاعر والقرَّاء بلا قواعد، فإن القارئ يربِّي داخل نفسه الفضيلة من خِلال تماهيه مع أفكار الشاعر وليس صوره، فالشاعر الحكيم يَعتبر الصورة والحكاية في شِعره وسيلةً للوصول إلى الفكرة الحقيقة.
واللهِ ما طلعَت شمسٌ ولا غربت
إلا وحبُّك مقرونٌ بأنفاسي
ولا خلوتُ إلى قوم أحدِّثهم
إلَّا وأنت حديثي بين جلَّاسي
ولا ذكرتُك محزونًا ولا فَرِحًا
إلَّا وأنت بقلبي بين وسواسي
ولا هممتُ بشرب الماءِ من عطشٍ
إلَّا رأيتُ خيالًا منك في الكاسِ
ولو قدرتُ على الإتيان جئتُكمُ
سعيًا على الوجه أو مشيًا على الراسِ
ويا فتى الحيِّ إن غنَّيتَ لي طربًا
فغنِّني أسفًا من قلبك القاسي
ما لي وللنَّاس كم يلحونني سفهًا
ديني لنَفسي ودين النَّاسِ للنَّاس
• • •
يا نسيم الرُّوح قولي للرشا
لم يزِدني الوِرْدُ إلَّا عطشا
لي حبيبٌ حبُّه وسط الحشا
إن يشا يمشي على خدِّي مَشى
روحُه روحي وروحي روحُه
إن يَشا شِئتُ وإن شئتُ يَشا
القصيدة شارحة لنَفسها، مرتفعة بقارئها إلى عالم الحبِّ، وكاشفة له حُجب المحبة؛ لذلك فإنَّ توظيفها في أيِّ فلسفة تربوية يعدُّ مدخلًا أساسيًّا لبِناء شخصيَّة الإنسان المتكاملة، الجامعة بين جماع البدن وأواصر الروح.
ولئن كان للحياة مَنطق، فإن للشِّعر هنا أيضًا منطقًا متناغمًا مع نظام الحياة، إنَّه منطق ينسجِم مع نسقية هذا الكون.
وبما أنَّ معرفة أسرار الروح ما هي إلَّا بناء علمي؛ كما يقول تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا * وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا * إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 85 – 87]، فإنَّ قارئ الشِّعر هنا يَرتقي في معرفته عن الرُّوح، وبالتالي لا يَدعها تنجس بأردان البدن؛ وهذا هو مربط الفرس.
البرزخ إذًا يكمن في جعل الفنِّ خادمًا لفلسفة التربية عن طريق تحويل فن الشِّعر من سلاح مدمِّر للإنسانية إلى أداة لاكتشاف جمالية الروح، وكما نشاهد في عالمنا فإنَّ الفن هو الذي يَجعل الملايين من الناس الآن مصفَّدين بالأغلال في كهوف الوهم والوهن.