مقالات
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن القراّن الكريم والهوية المعاصرة

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن القراّن الكريم والهوية المعاصرة
بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
عُرف العربُ قبل الإسلام بالأنفَة الشديدة، لا يُقرُّون الضيمَ أبدًا، يَحْيَوْن للعصبية القبليَّة ويموتون لها، يسيرون على المثل السائر “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا” على معناه الحرفي من غير التعديل الذي جاء به الإسلام بأنَّ نصر أخيك ظالمًا هو كفه عن ظلمه، وكثيرًا ما تشتعل الحروب بين القبائل لأتفه الأسباب، وعلى إثر ذلك تتساقَط الضحايا بالمئات والألوف.
كما نرى ذلك مثلاً في حرب البسوس، التي دامت أربعين سنة بين قبيلتي أبناء العمومة من بكر وتغلِبَ؛ حيث تفانى فيها الرجال والأبطال، وتعاقبَت عليها الأجيال، كل في قتل صاحِبِ طفولته ورفيق أمسه، وحقيقة هذه الحرب أن وقودها الجاهلية العمياء، والعصبيَّة القبَلية التي عاشَها العرب قبل الإسلام، فحقيقتها أن ناقة اقتحمَت حِمى كُليبٍ سيد تغلبَ!
وهذا الشاعر الجاهلي دُرَيد بن الصِّمَّة يَخوض الحرب مع قومه عالمًا بضلالهم وخطئهم، وقد تجرع ويلاتها وما فيها مِن مآسٍ، ثم أنشد في ذلك قصيدته الشهيرة التي يقول فيها:
أمرتُهُم أمري بمُنعرَج اللِّوى
فلم يَستبينوا الرُّشْدَ إلا ضُحى الغدِ
فلما عصَوني كنتُ منهم، وقد أرى
غَوايتهم وأنني غير مُهتدِ
وما أنا إلا مِن غَزِيَّةَ إن غوَتْ
غويتُ وإن تَرشُدْ غزيةُ أَرشُدِ
هذه حالتهم الأولى، وهويتهم التي جمعتهم وقاتلوا لأجلها، ولكنَّ أمرًا جديدًا وحدثًا عظيمًا غيَّر حالهم، وأبدل هوية القوم بأخرى، جمَعت شمل العرب – كلَّ العرب – تحت راية واحدة، غيَّرت مجرى حياتهم، ونُظُمَ عُرفهم، فيا ترى كيف استطاعت هذه الهوية الجديدة “الإسلام” أن تُحيي القلوب بعد أن كانت ميتة؟ وكيف استطاعت أن تهزَّ النفوس وتُربيَها بعد أن كانت هامدة؟!
إنه القرآن الكريم؛ فالقرآن نور يُشرق، وضياء يزهر، وسراج ينير، ورُوح من أمر الله يبعث الحياةَ بعد الممات؛ ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122].
فعل القرآن في العرب العجَب العُجاب، فبعد أن كانوا في ظلمات بعضها فوق بعض، أنار لهم الحياة وأضاءها، كانت النفوس في ضنك وتيه، صارت هادئة مطمئنة قريرة، كان الجاهليُّ يسير في الحياة بلا مقصد ولا هدف، فحوَّل القرآن المجرى وصار عندهم تصوُّرٌ جديد عن الحياة والقيَم.
فالقرآن حبل الله المتين الذي أمرَنا أن نتمسَّك به؛ ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103]، ولا يَقدِر على هذه المهمَّة – أعني: جمع الأعداء والقلوب المتنافرة – إلا القرآنُ الكريم، فصارت الأخوَّة تَنبثِق من الاعتصام بحبل الله، بعد أن كانت تَجتمِع على حبل العِرق والدم، وحبال أخرى من حبال الجاهلية.
والقرآن هو الهُوية التي يَشرُف بها المؤمن ويزداد عزًّا؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾ [الأنبياء: 10]؛ أي: فيه شرفكم كما يقول ابن عباس – رضي الله عنهما.
وقال ربنا سبحانه: ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ [الزخرف: 44]؛ أي: شرف لك ولقومك، قال سيد قطب – رحمه الله -: “وما يملك العرب من زاد يُقدِّمونه للبشرية سوى هذا الزاد، وما يَملِكون من فكرة يُقدِّمونها للإنسانية سوى هذه الفكرة، فإن تقدَّموا للبشرية بكتابهم ذاك، عرَفتْهم وذكَرَتْهم ورفعتْهم؛ لأنها تجد عندهم ما تنتفع به، فأما إذا تقدموا إليها عربًا فحسب بجنسية العرب، فما هم؟ وما ذاك؟ وما قيمة هذا النسب بغير هذا الكتاب؟ إن البشرية لم تعرفهم إلا بكتابهم وعقيدتهم وسلوكهم المستمَدِّ مِن ذلك الكتاب وهذه العقيدة، لم تَعرِفهم لأنهم عرب فحسب؛ فذلك لا يُساوي شيئًا في تاريخ البشرية، ولا مدلول له في معجم الحضارة!”؛ “في ظلال القرآن” (4: 2370).
والقرآن يرفع أقوامًا ويضع آخرين؛ فقد أخرج ابن حبان في صحيحه أن نافع بن الحارث لقي عمر بن الخطاب بعُسْفان – وكان عمر استعمله على أهل مكَّة – فسلَّم على عمر فقال له عمر: مَن استخلفتَ على أهل مكة؟ فقال نافع: استخلفت عليهم ابن أَبْزَى، فقال عمر: ومَن ابن أبزى؟ فقال: مولًى مِن موالينا، قال عمر: فاستخلفتَ عليهم مولًى؟! فقال: يا أمير المؤمنين، إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، فقال عمر: أمَا إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد قال: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين)).
أما اليوم، فقد عادت لنا جاهلية الأمس بلَبوس جديد تحت مُسمى الوطنية والقومية، فنرى أناسًا استبدلوا الهوية العربية والكنعانية والفلسطينية التي راحت تُنازع الله تعالى في سلطانه بهوية الإسلام، فالدين عندهم لله والوطن للجميع، وغيرُها من الشعارات الجاهلية التي تضبط علاقاتِ الناس وعناصرَ التجمُّع!
وهذا كله من دعاوى الجاهلية التي كان العرب قديمًا يجتمعون عليها، وقد اعتبرها النبي – صلى الله عليه وسلم – جاهلية؛ حيث قال معقبًا بعد أن بلغه اجتماع الأوس والخزرج للقتال: ((يا معشر المسلمين، الله الله، أبِدَعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم من الكفر، وألَّف بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارًا؟!))، فعرف القوم أنها نزغة الشيطان، وكيدٌ من عدوِّهم، فألقَوا السلاح وبَكوا، وعانق بعضهم بعضًا؛ أخرجه الطبري عن زيد بن أسلم.
ونحن في عصرنا الحاضر أحوَج ما نكون إلى القرآن الكريم، تلاوةً، وتدبرًا، وفهمًا، وعملاً، وتمثلاً؛ لأنَّ هذا العصر هو عصر الهجمة الشرسة على هويتنا؛ انظر أقوال قادة الغرب:
يقول غلادستون: “ما دام هذا القرآن موجودًا، فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان كما رأينا”.
ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر بمناسبة مرور مائة عام على احتلالها: “يجب أن نُزيل القرآن من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي مِن ألسنتهم؛ حتى ننتصر عليهم”، وهذا نفسه يحصل في فلسطين، فترى ضعفًا إيمانيًّا، وجفافًا روحيًّا، وتخبُّطًا فكريًّا، وانحطاطًا خُلُقيًّا، وغير ذلك مما أصاب المسلمين كنتيجة منطقية لقوم نَسوا هويتهم واستبدلوا غيرها بها، وحطُّوا من مكانتها بعدم الاهتمام بها، وشابوا معدنَها بركام هائل من الأوهام في مجال العلم والعمل على حدٍّ سواء.
فنقول لكل مَن غابت عنه هويته، ولكل مَن استبدل هويات أخرى بها: انظر إلى كتاب الله تجد هويتك فيه؛ فكل أمر لا يُجعل القرآنُ له أساسًا، فهو أمر مخذول، منزوع البركة، منبوذ، لا فائدة منه، فالرِّفعة والعزَّة لا تكون إلا بالقرآن الكريم؛ لا تكون بتلك الوطنيات والقوميات التي يَجتمع عليها البعض اليوم كما اجتمع عليها العرب في الجاهلية.