مقالات

لماذا ينجذب الناس إلي العالم السفلي ؟

ريم ماهر تكتب…..

منذ فجر التاريخ، ظل الإنسان مشدوهًا أمام المجهول، يطرح الأسئلة الكبرى عن الحياة والموت، الخير والشر، النور والظلام. ومن بين كل هذه الثنائيات، يبرز “العالم السفلي” كواحد من أكثر الرموز إثارة وغموضًا. فما الذي يجعل هذا العالم، بكل ما يحمله من رعب وغرابة، محط اهتمام دائم للبشر؟ ولماذا نجد أنفسنا منجذبين، ولو فكريًا، إلى عوالم تُخالف منطق الحياة وتستقر في الظلال؟

فلطالما شكل “العالم السفلي” – بمختلف صوره وتفسيراته – مصدر جذب وفضول للإنسان عبر العصور. سواء تمثّل في الجحيم الديني، أو عوالم الموتى في الأساطير، أو الظلال المظلمة في النفس البشرية، فإن فكرة العالم السفلي تثير فينا مشاعر الخوف، الفضول، والرغبة في الاكتشاف. لكن ما الذي يدفع الإنسان للانشداد نحو هذا الجانب الغامض والمظلم من الوجود؟

1. غريزة الفضول والمعرفة
من طبع الإنسان السعي لاكتشاف المجهول، ولا شيء يبدو أكثر غموضًا وإثارة من العالم السفلي. الأساطير القديمة، مثل أسطورة أورفيوس في اليونان، أو ملحمة جلجامش في بلاد الرافدين، تظهر محاولات الأبطال لاختراق عالم الموتى بحثًا عن إجابات أو أحباب. هذا يدل على أن الرغبة في فهم ما بعد الموت متجذرة في أعماق الإنسان، وتُحفّزها الغرابة والغموض.

2. الانجذاب للمحظور والمحرَّم
العالم السفلي في معظم الثقافات مرتبط بالشر، بالخطايا، بالجنّ، بالأرواح الهائمة، وكل ما يُعدّ “محظورًا”. وهذا بحد ذاته يجعل الإنسان يشعر بالإثارة حين يقترب منه فكريًا أو فنّيًا. المحرمات تجذب لأنها تمثل تمردًا على القواعد، ورغبة في كسر الحواجز التي فُرضت اجتماعيًا ودينيًا.

3. الهروب من الواقع
في بعض الحالات، يعكس الانجذاب للعالم السفلي رغبة لا شعورية في الهروب من واقعٍ مرير. يرمز “العالم السفلي” إلى عالم موازٍ لا يخضع لقوانين الحياة اليومية، وربما يمثل مهربًا أو راحة نفسية عند البعض، خصوصًا من يشعرون بالعزلة أو القلق أو فقدان المعنى.

4. التعبير عن الصراع النفسي
سيغموند فرويد وكارل يونغ، من رواد علم النفس، تحدثوا عن أن الظلام والهاوية يرتبطان بالنفس اللاواعية، أي بتلك الجوانب المكبوتة أو المخفية من الذات. حين ينجذب الإنسان إلى رموز العالم السفلي، قد يكون ذلك انعكاسًا لصراعات داخلية أو رغبة في فهم ذاته على مستوى أعمق.

5. تأثير الأدب والفن والإعلام
ساهمت الروايات، الأفلام، الألعاب، وحتى الموسيقى، في تعزيز صورة العالم السفلي كمكان مثير ومليء بالتحديات. “دانتي” في “الكوميديا الإلهية”، أو أفلام الرعب المعاصرة، تقدم هذا العالم بطريقة درامية تخاطب المشاعر وتغذي الخيال، مما يجعل الناس أكثر انجذابًا له كرمز وتجربة.

6. الرغبة في إعادة الاتصال بالراحلين
في كثير من الثقافات، يُنظر إلى العالم السفلي كمكان تذهب إليه الأرواح بعد الموت، مما يجعله محط اهتمام لمن فقدوا أحبّاءهم. الانجذاب إلى هذا العالم قد ينبع من رغبة دفينة في التواصل مع أولئك الذين رحلوا، أو حتى محاولة فهم مصيرهم. الطقوس الروحية، مثل استحضار الأرواح أو زيارة المقابر، تعكس هذا التوق الإنساني العاطفي لإعادة بناء الجسور بين عالميْ الأحياء والأموات.

7. العالم السفلي كرمز للتحوّل والبعث
رغم ارتباطه بالظلام، فإن العالم السفلي كثيرًا ما يُصوَّر في الأساطير كمرحلة ضرورية قبل العودة إلى النور. النزول إلى هذا العالم يرمز إلى رحلة داخلية نحو التغيير أو الشفاء. مثلما نزلت “إنانا” في الأساطير السومرية إلى العالم السفلي وعادت أكثر قوة، فإن المرور برمزية “الجحيم” قد يمثل اختبارًا يُفضي إلى النضج والتحول الشخصي.

8. البحث عن الهوية وتفكيك الأقنعة
يمثّل العالم السفلي، بما يحويه من رموز وأهوال، فرصة للإنسان ليواجه ذاته بلا أقنعة. في أعماق هذا العالم، تتساقط التمثيلات الاجتماعية، ويظهر “الذات الحقيقية”. قد ينجذب الإنسان إلى هذه المواجهة لأنه يبحث عن فهم أعمق لهويته، بعيدًا عن الأدوار والضغوط التي يفرضها المجتمع.

9. إسقاط اللاوعي الجمعي
كارل يونغ تحدث عن “الظل” كجزء من النفس يحمل ما نكبتْه أو تجاهلتْه الأنا الواعية. العالم السفلي قد يُعدّ تمثيلًا لهذا “الظل”، ليس فقط على المستوى الفردي، بل الجمعي أيضًا. ما نخافه أو نرفض الاعتراف به كمجتمع (كالشر، العنف، الغرائز) يُسقَط على هذا العالم، مما يفسر الانجذاب إليه كوسيلة لفهم هذا الظل واحتوائه.

10. الرغبة في التطهير النفسي
الولوج إلى رمزية العالم السفلي قد يحمل رغبة ضمنية في التطهّر. فكما تمر الأرواح أحيانًا في الأساطير بمراحل من العذاب قبل الخلاص، كذلك النفس قد تنجذب إلى تجربة “الهبوط” لتتنقّى من مشاعر الذنب أو الندم، وكأن هذا العالم يمثّل معبرًا للغفران أو التخلّص من الأعباء النفسية.

11. النشوة الناتجة عن مواجهة الخوف
الخوف ليس فقط شعورًا سلبيًا، بل يمكن أن يكون محفزًا قويًا للنشوة الذهنية. مشاهدة أفلام الرعب أو قراءة قصص العالم السفلي تمنح الإنسان إحساسًا بالسيطرة المؤقتة على المخاوف، وكأنها تجربة “آمنة” لمواجهة الرعب الداخلي، مما يؤدي إلى تحفيز نفسي مشابه لتجربة الأدرينالين أو “التطهير العاطفي”.

وربما كان سبب انجذاب الإنسان إلى “العالم السفلي” ليس مجرد الفضول لمعرفة ما وراء الحدود المظلمة، بل هو بحثٌ مستمر عن معنى أعمق في وجوده. فهل هو شرير في جوهره، أم أن هذا العالم مجرد مرآة تُظهر تلك الظلال التي نحاول دومًا إخفاءها؟ كثيرًا ما نسمع عن محاولات البشر في الوصول إلى ذلك العالم الذي يحتوي على ما هو محظور، الممنوع، والممنوع التفكير فيه. ولكن، ليس الشر وحده هو ما يجذب الإنسان إلى تلك الأعماق؛ إنما هو ذلك التوق الدفين في النفس البشرية لاكتشاف جوهر ذاته.

إذا كان “العالم السفلي” يحتوي على كل ما هو مظلم ومخيف، فإن جذبه يكمن في تلك الحقيقة التي يواجهها الإنسان في كل مرة يحاول فيها تخطي حدوده. فكما يظهر الشر في هذا العالم، يظهر أيضًا الصراع الداخلي الذي لا مفر منه، ذلك الصراع بين الظلال والنور، بين النوايا الطيبة والتطلعات المظلمة. هذا الانجذاب ليس سعيًا وراء الشر فحسب، بل هو أيضًا محاولة لاستكشاف الذات، لمواجهة القيم التي شكلتنا، ولمعرفة ما نكنّه من مشاعر ومخاوف تتحدى المنطق.

ليس العالم السفلي مكانًا محكومًا بالقسوة فحسب، بل هو أيضًا حقل خصب للتحولات النفسية والروحية. ففيه، لا تُختبر الروح بالشر وحده، بل أيضًا بالقوة التي تخرج منها بعد أن تتعامل مع هذا الشر. إن المرور عبر هذا العالم يبرز لنا أننا لا ننمو إلا عندما نواجه الظلام الذي في داخلنا، ونُحول معاناتنا إلى قوة، ونُعيد تشكيل أنفسنا ككائنات تتقبل هذا التناقض في الحياة.

وليس العالم السفلي مكانًا نخشاه فقط، بل هو صورة مكثّفة لكل ما نخفيه ونتجنبه في أعماقنا. إنه ليس مجرد جحيم أسطوري أو مملكة للموتى، بل مرآة نُطلّ عبرها على هشاشتنا، على ذلك الجزء من الذات الذي لا تراه العين ولا تحتمله الروح بسهولة. إن انجذابنا له هو انجذاب لحقيقتنا العارية، للظلال التي تمنح النور معناه، وللمعاناة التي تصنع فينا التحول.

ربما لا يُولد الإنسان حقًا إلا بعد أن يواجه جحيمه الداخلي، ويخرج منه لا كما دخل، بل كائنًا أعاد تشكيل نفسه على نار الوعي والانبعاث.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى