مقالات
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي ورئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين يتحدث عن علم الجيولوجيا عند العرب والمسلمين
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن علم الجيولوجيا عند العرب والمسلمين
بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا
الرئيس التنفيذي لجامعة سيتي بكمبوديا
الرئيس التنفيذي للمؤسسة الدولية للدراسات المتقدمة بأمريكا
ورئيس جامعة الوطن العربي الدولي ( تحت التأسيس )
الرئيس الفخري للجمعية المصرية لتدريب وتشغيل الخريجين
الرئيس الفخري لمنظمة العراق للإبداع الإنساني بألمانيا الإتحادية
الرئيس التنفيذي للجامعة الأمريكية الدولية
الرئيس الفخري للمركز الدولي الفرنسي للعلماء والمخترعين
الرئيس الشرفي للإتحاد المصري للمجالس الشعبية والمحلية
قائمة تحيا مصر
مما لا شك فيه أن جاء في كثير من آيات القرآن الكريم إشاراتٌ واضحة إلى علم طبقات الأرض (الجيولوجيا)؛ ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ [فاطر: 27]، وقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 10]، وقوله تعالى: ﴿ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴾ [الطارق: 12]، وقوله تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [العنكبوت: 20]، وغير ذلك من الآيات الكريمة التي تحدَّثت عن هذا النوع من العلوم، والتي دفعت المسلمين إلى دراسته دراسة مستفيضة.
إنَّ الحضارةَ العربية الإسلامية حضارةٌ إنسانيةُ النَّزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، سمتُها التسامح، تؤمن بالعلمِ في أصدقِ صورةٍ وأعمق أصول؛ مما كانَ له أثره البارز في تكوين الفكر العلمي لدى الغربيِّين منهجًا وأساليبَ بحثٍ، ومعارفَ نظريةً وتجاربَ تطبيقية في شتى العلوم، إضافة إلى إسهامِ الفكرِ العربي في نقلِ التراث اليوناني والهندي والفارسي والحضارات القديمة في موطنِ العرب، وحضارة بلاد ما بين النهرين، وحضارة وادي نهر النيل، وهكذا كان دورُ حضارةِ العرب مُنطلقَ النورِ الذي عمَّ أوربا بعد الظلام، وهوَ دورٌ لا يمكنُ أن يُجحَد أو يُنكر[1].
لقدْ أكَّدت البحوث الحديثة الدَّين الكبيرَ الذي يَدينُ بهِ العالم للعلماءِ العرب والمسلمين الذينَ حثُّوا على نموِّ المعارف، في حين كانت أوربا تعيش في ظلامٍ دامس، كما كانَ للحضارةِ العربيةِ الإسلامية دورٌ بارزٌ في إمداد أوربا بالعلومِ والمعارفِ التي قامت عليها الحضارة الغربية؛ حيث أضاف العرب إلى ما أخَذوه من العلوم والآدابِ التجديدَ والابتكار، والترجمة والدراسة، والمناقشةَ والنَّقد.
وبعد أن ترجم العرب المسلمون كلَّ ما ورثوه عن الحضارات الهندية والفارسية واليونانية، أخذوا يُعمِلون عقولهم في كل ما ترجموه ونقَلوه بعد أن مزَجوه بالروح الإسلامية، فجاءت كتاباتهم ومؤلَّفاتهم دليلَ خصبٍ على حضارتهم وتميزها عن كلِّ ما جمَعوه من السابقين، وتمثَّلوه من الحضارات المعاصِرة لهم، فأثبتوا بذلك أنهم واسطةُ العِقد في حضارات الإنسانية.
وقد قال المؤلف رام لاندو في كتابه مآثر العرب في الحضارة: “إن المسلمينَ قدموا الكثيرَ من الفتوحاتِ في العلومِ، فاجتذبَ ذلك العلماءَ والحكماءَ وأهلَ البحث والنظر ورجالَ الفن والأدب من جميعِ الأصقاع، وأنشؤوا مؤسسات لنقل علوم الشعوب؛ مثل: بيت الحكمة، دار الحكمة، دار العلم، والجامع الكبير، كما أنشؤوا المكتبات، ونخصُّ بالذِّكر فترة الحكم العباسي الذي بدأ عام 132هـ/ 750م؛ لأنها من فترات التاريخ اللامعة الزاهرة.
إننا نجد أن الأسلوب العلمي لم يكن مطبقًا في بلدان العالم القديم؛ مثل مصر والصين والهند، ونجد القليل منه في اليونان، ولا نجده في روما، ولكن العرب امتازوا بالروح العلمية الاستطلاعية، مما يجعلهم يُدعَون بجدارة آباء العلم الحديث، لقد بنى العرب على الأساس العلمي الذي استقَوه من غيرهم أبحاثًا عظيمة، وتوصلوا إلى اكتشافات عظيمة؛ لقد صنعوا أول مكبر وأول بوصلة، وطبَقَت شهرةُ أطبائهم وجرَّاحيهم آفاقَ أوربا، وكانت بغدادُ مركزَ إشعاع فكري، وقرطبةُ عاصمة إسبانيا العربية مثيلة بغداد في دنيا الغرب، وكانت في العالم العربي مراكز علمية أخرى ازدهرَت فيها العلوم”[2].
رغمَ ذلك لم يحظَ إسهامُ العرب المسلمين في العلومِ باهتمامٍ لائقٍ وعنايةٍ مرجوَّةٍ من الباحثين في البلادِ العربية، ويدَّعي علماء الغرب أن إنجازات العرب اقتصرَت على العلوم الدينية والأدبية، ومن هنا بدأت انطلاقةٌ هدفها إحياء التراث العربي علومًا وأعلامًا؛ لأن إحياء القديم وربْطَه بالحاضر من أقوى الدعائم التي بنَتِ الأمم عليها كيانَها؛ يقول غوستاف لوبون: “إن العرب استطاعوا أن يبدعوا حضارة جديدة، وكان تأثير العرب في الغرب عظيمًا، يرجع إليهم الفضلُ في حضارة أوربا”، ويقول المستشرق الألماني شخت: “لقد تتلمذَت أوربا على العرب مدة “خمسة قرون” نهلت في أثنائها من حياض العلوم العربية، وبهذا أعدَّت نفسها لما تنتج الآن من البحوث العلمية الحديثة”[3].
أدى سقوط الإمبراطورية الرومانية إلى جمود العلوم عامة – وفي الجيولوجيا خاصة – لقرونٍ عديدة في أوربا، عندئذٍ حمَل العرب مِشعلَ العلم في وقت كانت غارقةً في الجهل، بُنِيت جهود العلماء العرب والمسلمين في الجيولوجيا[4] على المنطق والدقة والتجربة، بخلاف مَن سبَقَهم من الإغريق والرومان، وشارك علماءُ الشعوب الإسلامية في كافَّة فروع العلم التجريبية، وانتشرت المختبرات العلمية، والمكتبات العلمية مع العلماء المسلمين في معظم البلاد الإسلامية، وقرأ فريقٌ من العلماء التجريبيِّين المسلمين كتابَ الله بإيمان كامل، وتمعَّن في كلمات الله وما تحمِلُه من معانٍ، ووجَدوا أن هناك أشياءَ يمكن أن يُضيفوها مما أفاء الله عليهم من العلم الحديث؛ مما يُلقي المزيد من الأضواء على بعض الجوانب في تفسير بعض الآيات، تلك الجوانب التي لم يُلقِ المفسرون السابقون لها بالاً.
ورأى هؤلاء العلماء التجريبيون في إعلان هذه المعاني التي استنبطوها والتي ترتكِزُ على آخِر ما توصَّل إليه العلم الحديث – توضيحًا لعدد من القضايا القرآنية، وتثبيتًا للإيمان العميق، كما وجدوا فيه جانبًا من الإعجاز أسمَوه: الإعجاز العلميَّ للقرآن، فهم يرَون أن ثمة إشارات علميةً عديدة وردَت في ثنايا القرآن الكريم، لها صفة الإعجاز الذي يضَع العلماءَ أنفسَهم بمختلف تخصصاتهم موضعَ الانبهار إزاء تلك الإشارات التي تبيِّن أنها حقائقُ علمية ساطعة، لم يمض على كشف كُنهِها سوى بضعةِ عقودٍ من السنين، ولم يعُد هذا الانبهار شعورًا فرديًّا لبعض العلماء في هذا القُطر الإسلامي أو ذاك؛ فقد انتظمَت مجموعاتٌ من هؤلاء العلماء في تآلُف، غرضُه التعاون في أبحاث الإعجاز العلميِّ للقرآن، وعرضه على عامة المسلمين في ندوات ومؤتمرات، ونشره بوسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئيَّة.
كان للعرب والمسلمين نظرياتٌ عديدة عن أصل الصُّخور وكيفية تكوُّنها، وخصُّوا بالذِّكر الصخور الرسوبيَّة وتعاقُبَ الطبقات بعضها فوق بعض، والنَّيازك، واقترحوا لها تصنيفاتٍ فئوية؛ فقد قسَّموا النيازك إلى فئتين: حجرية وحديدية، وهو نفس التقسيم المتبَع حاليًّا.
ولعل أول تلميح للتقسيم الحالي لما يسمى الصخور الناريَّة والرُّسوبية والمتحركة – جاء في كتابات جابر بن حيَّان قبل عام 200 هـ – 815م؛ وبذا يكون علماء الجيولوجيا العرب أسبقَ مِن غيرهم إلى ذلك؛ إذ نجد أن هذا الأمر لم يُثِر انتباه الجيولوجيين إلا في نهاية القرن الثامنَ عشر وبداية القرن التاسع عشرَ الميلاديَّين.
كان انطلاق مفكِّري الإسلام وعلمائه في كل ساحات الفكر وميادين العقل غيرَ عابئين بالعراقيل والتقاليد القديمة، بعد أن أعطاهم الإسلامُ حريةً فكرية خصبة، وحرَّر عقولهم من كلِّ قيد إلا قيد الحقيقة والتزام الصدقِ والموضوعية.
وإذا نظرنا إلى العلم من وجهةِ نظر الفلاسفة الإسلاميِّين، وجَدنا أنَّ العلم الطبيعيَّ كان يمثِّل الناحية الوصفيَّة من العلم؛ أي: الكيفيَّة، وهو أول مرحلة يجتازها العلم في التعرف بالأشياء وأعراضها، وكان التعليميُّ في جملته يمثِّل الناحية الكَمِّية، وهي المرحلة التي يكون بها كمالُ الأولى، وهناك مرحلة ثالثة وصَل إليها العلم العربي في منهجه العلمي، وهي مرحلة الاستِقراء، وقد ظهر ذلك ضمنًا في أبحاثهم، كما أثبتَت الدراسات مؤخرًا عند الكثيرين من علماء وفلاسفة العرب[5].
ويرجع كل ذلك إلى استِلهام علماء المسلمين لروح حضارتهم التجريبيَّة التي خالفَت الروح اليونانية؛ يقول المؤرِّخ جورج سارتون أعظمُ مؤرِّخي العلم في القرن العشرين في اعترافٍ بفضل المسلمين على روَّاد المنهج العلمي الحديث: “عند نهاية القرن الثالثَ عشر، استعدَّت عقولُ بعض أعاظم حكماء العالَم النصراني، منهم “ألبرت الكبير” و”روجر بيكون” و”ريمون لال” إلى الاعتراف بتفوُّق الثقافة الإسلامية، وربما كانت المأثرة الأساسية التي تمخَّض عنها الجهدُ في العصور الوسطى هي تربيب الروح التجريبية، وترجع هذه المأثرة بداية إلى جهد المسلمين حتى آخرِ القرن الثاني عشر، ثم انتحلها النصارى”.
لقد تبيَّن أن الكثير من المفاهيم الأساسية الحديثة لهذا العلم بالتحديد – ولكثير من العلوم الأخرى – قد طُرِحت في عصر الحضارة الإسلامية، وهذا ثابتٌ في المخطوطات العربية التي انتقلَت في فترات لاحقة إلى المكتبات والمهتمين في أوربا في وقتٍ تزامَنَ مع ضعف الدولة الإسلامية.
والملاحَظ – تاريخيًّا – أن مراحل تداعي الدولة الإسلامية كان مُتزامنًا مع بَدء ازدهار الحضارة في أوربا، ولعل ذلك كان بفضل استفادتهم من الحضارة العربيَّة؛ حيث نشطَت حركة نقل المخطوطات إلى الغرب، ومن ثَمَّ حركة الترجمة، حتى شهدت أوربا الإمبراطور “فردريك” الثاني، الذي اعتلى عرش إيطاليا – وكان يلقَّب بأعجوبة الدنيا – يتمرَّد على سلطة البابا، ويفتح بلاطَه لعلماء المسلمين ومفكِّريهم، ثمَّ ذهب إعجابه بنهضة المسلمين الفكرية والحضارية إلى إدخال تقاليدهم وعاداتهم في بلاطه! وفي سنة “612هـ/ 1224م” أسَّس جامعة “نابولي”، وكانت هذه الجامعة تدرِّس فلسفة الفيلسوف العربي ابن رشد وفلسفة الفيلسوف اليوناني أرسطو المنقولة بأقلام المترجمين المسلمين، وكانت تَعتمِد على الدروس التي وضَعها علماء من المسلمين مثل: “ابن سينا، والرازي، والفارابي” وغيرهم.
الإمبراطور “فريدريك” هو الذي أدخَل الأرقام العربية وعِلم الجَبر إلى أوربا، وكانت جامعة نابولي لترجمة العلوم العربية إلى اللغة اللاتينية، وانتشرَت في جميع أجزاء أوربا، وإلى ما بعد النهضة الأوربية الكبرى بقيَت جامعاتُ فرنسا وإنكلترا وإيطاليا تَعتمد على المراجع العربية[6].
لقد ساهمت جامعة نابولي وجامعة “ساليرنو” بشكل كبير جدًّا في نقل النهضة الفكرية إلى جامعات “باريس” و”بولونيا” و”إكسفورد”، ثمَّ منها إلى جميع أنحاء أوربا، ثمَّ اتسع احتكاك الأوربيِّين الثقافيُّ بالمسلمين في الأندلس، وفي القاهرة، ودمشق، وبغداد، وسائر العواصم الكبرى في العالم الإسلامي؛ عن طريق التجارات، والرحلات، والسفارات[7].
وتقدَّر نسبة المخطوطات العربية الموجودة في المكتبات الغربية الآن بما يَزيد عن خمسين في المائة؛ حيث يبدو أن المسلمين في نهاية عصرهم الذهبيِّ أهملوا هذا الإرثَ العظيم مما حازوه من نفائس المخطوطات، وباعوها بأبخَس الأثمان، هذا فضلاً عمَّا سُلبَ ونُهب أثناء الغزو.
يَعُدُّ المختصون الغربيون تاريخ نشأة علم الجيولوجيا علمًا حديثًّا (أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسعَ عشر الميلاديَّين) على يد علماءِ أواسط عصر النهضة الأوربية؛ حيث بدأ علمُ الأرض الحديث بالظهور والتفرُّع على يد الكثير من العلماء:
• منهم العالم الأسكتلندي جيمس هاتون James Hutton (1726 – 1797) في القرن الثامنَ عشر الميلاديِّ؛ حيث يُعتبر أولَ من وضع فيه أسسَ الجيولوجيا العلمية الحديثة، وأسهَم في تقدم وتطور الجيولوجيا، ووضع تلك الأسس عام 1779 م في كتابه الشهير The Theory of the Erath، مستنِدًا في ذلك – على ما يبدو – إلى ما هو امتداد طبيعي لتراث الفكر الجيولوجي العربي الإسلامي، ولكن دون الإشارة لذلك.
• والعالم كوفييه مؤسس علم الأحافير الفقريَّة.
• ولامارك مؤسس علم الأحافير اللافقارية.
• ووليم سميث William Smith مؤسس علم الطبقات، ويعتبر سميث أولَ من قام بوضع حجر الأساس للجيولوجيا التاريخية، ولا عجب أن نجد مَن يطلق على ذلك العالم لقبَ “أبو الجيولوجيا التاريخية” Father of Historical Geology.
إن ما شدَّني للتركيز على دَور علماء الإسلام في العلوم الجيولوجية والعلوم الأخرى هو أنَّ الباحث والطالب الذي يَدرُس أو يطَّلع على المراجع والكتب الأجنبية في شتى مجالات العلوم والأدب لا يَقرأ إلا أسماءَ العلماء الغربيِّين والأوربيين، إضافةً إلى فلاسفة الإغريق والرومان؛ حيث إن الكُتَّاب يُشيدون بآرائهم الأولية وإسهاماتهم، وبالمقابل غالبًا ما نجدهم يَقفزون عن زمن ومرحلة مهمة من تاريخ العلم (العصر الإسلامي)، وإن ذكَروا أحدَ أسماء علماء المسلمين القدماء فإنَّهم لا يعطونه حقَّه العلمي والأدبي، وقد يحاول الكاتبُ إخفاء الحقيقة وتشويهَها ونسبتها إلى من لا يستحق!
جاء في كتاب “محاضرات في تاريخ العلوم” للمستشرق الدكتور “فؤاد سزكين”[8] أن “شبرجس” أثبتَ بالأدلة أن الجامعات التي نشأت فجأةً في أوربا منذ القرن الثالثَ عشر الميلادي قد كانت كلها تقليدًا مطلقًا للجامعات الإسلامية؛ إذ لم يكن لها نماذجُ سابقة عند الإغريق القدماء، ولا عند الرومان ولا عند البيزنطيين[9].
واكتشف ديفيد كينج أن كثيرًا من النظريات المنسوبة لنيكولا كوبرنيكس هي للفلكيِّ العربي المشهور ابن الشاطر (ت777هـ – 1375م)، يقول كينج: “لقد عُثر في بولونيا موطن كوبرنيكس (1473 – 1543م) على مخطوطات عربية عام (1973م)، وثبت أن كوبرنيكس كان يأخذ عنها، ويدَّعي لنفسه ما يأخُذ، ولقد ثبت منذ عام (1950م) أنَّ نظريات كوبرنيكس في الفلَك هي في أصلها مأخوذةٌ عن ابن الشاطر من كتابه المعروف “زيج ابن الشاطر” وادَّعاها كوبرنيكس لنفسه، وبذلك يكون ابن الشاطر قد سبق كوبرنيكس، الذي عاش في القرن السادسَ عشر الميلادي، بوضع نظريته عن حركة الكواكب، ودورانها حول الشمس، أو ما يسمَّى الآن بالنظام الشمسي[10].
ويعترف هيرودوت (484 – 424 ق.م) بفضل الحضارتين المصريَّة والبابلية (موطن العرب القديم) على الفكر الإغريقي، ويقول سارتون (1950) الذي درَس الحضارات الإنسانية على اختلافها: إن العلم الروماني ليس إلا نسلاً ضعيفًا للعلم “الهيلني”، وما بعدَ الحضارة الإغريقية تشتَّت العلماء، وأُحرق الكثير من الكتب، إلى أن جاءت الحضارة العربية الإسلامية[11].
ويرى “لوبون” أن الحضارة العربية لم تدخل أوربا نتيجةَ الحروب الصليبية كما هو الرأي الشائع، بل دخلَت بوساطة الأندلس وصقلِّية وإيطالية، وزهاء مدة “خمسة قرون أو ستة” ظلَّت ترجمة كتب العرب العلمية هي المصدرَ الوحيد للتدريس بجامعات أوربا، ولم يَظهر في أوربا قبل “القرن الخامسَ عشر” عالمٌ لم يقتصر على استِنساخ كتب العرب، وكان الموسوعيون الأوربيون حينما يتحدثون عن الأرض يردِّدون ببساطة آراءَ ابن سينا، وقبل نهاية القرن “الثالثَ عشر الميلادي” كانت معظم العلوم – بما فيها علومُ الأرض والفلسفات العربية – قد تمت ترجمتها ونقلها إلى أوربا.
وهكذا نرى أن الدعائم الأولى للحضارة الأوربية الحديثة ارتكَزَت على أسُس متينة من الحضارة الإسلامية، التي تركَت بصماتها واضحةً في شتى مجالات الفكر الأوربي وعلومه؛ من ذلك شيوعُ مصطلحات عربية أو ذاتِ أصل عربي في اللغات الأوربية على اختلافها، وقد تأثَّر بذلك بخاصةٍ اللغاتُ الإسبانية والبرتغالية والإنكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية، ونقلوا عن العرب العلوم والفلسفات العربية كما هي بأسمائها الأصلية، وفي أغلب الأحيان لم يُشيروا إلى مَصادرها، كما أخذوا عن العرب منهجهم العلميَّ في البحث[12].
________________________________________
[1] غوستاف جرونيباوم؛ حضارة الإسلام، ترجمة: عبدالعزيز توفيق جاويد، دار مصر للطباعة 1956، ص 428.
[2] لمحات عن تاريخ العالم؛ البندبت جواهر لال نهرو، ط1، بيروت 1957، ص 32 – 35.
[3] حضارة العرب؛ غوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، مطبعة عيسى بابي الحلبي، ص 179.
[4] يطلق لفظ العلماء العرب على من عاشوا العصر الإسلامي وفي الإمبراطورية العربية، الممتدة من حدود الصين شرقًا إلى حدود فرنسا غربًا، وهم كل العلماء الناطقين بالعربية أو المؤلفين بها، أو الناقلين إليها؛ سواء كانوا عربًا خلصًا أو مستعمرين لغة، وبغض النظر عن أصلهم أو موطنهم – فارس، أو الحجاز أو الشام أو مصر، أو الأندلس أو المغرب العربي.
[5] منهج البحث العلمي عند العرب في مجال العلوم الطبيعية والكونية؛ بحث للدكتور جلال موسى.
[6] روائع الحضارة العربية الإسلامية في العلوم؛ علي عبيدالله الدفاع، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت 1988 ص 2.
[7] كواشف زيوف؛ عبدالرحمن الدمشقي (ت: 1425هـ)، دار القلم – دمشق1991م، ص 38 – 39.
[8] د. فؤاد سزكين العلامة التركي مؤلف كتاب تاريخ التراث العربي، صدر باللغة الألمانية سنة 1967م Geschichte des arabischen Schrifttums””، وترجم للعربية سنة 1973م، ويُعدُّ هذا الكتاب أوسع مؤلَّف في تاريخ التراث العربي، وهو يحمل الجنسية الألمانية، وعمل لفترة من الزمن كأستاذ في جامعة فرانكفورت.
[9] كواشف زيوف في المذاهب الفكريَّة المعاصرة؛ عبدالرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي (ت 1425هـ)، دار القلم، دمشق ط 2، 1412هـ – 1991م، ص 41.
[10] العلوم البحتة في الحضارة العربية والإسلامية، ص 364، ص 422.
[11] البحث العلمي أساسياته النظرية وممارسته العملية؛ رجاء وحيد دويدري – دار الفكر المعاصر – لبنان ط1، 2000 ص 85.
[12] حسين محمد كامل؛ أثر العرب والإسلام في النهضة الأوروبية، اليونسكو، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر – القاهرة 1970.