منوعات

حين يصير الحديد لغة للعدل ” الحجاج بن يوسف الثقفي “

بقلم : ريم ماهر

في مجرى الزمن، تتوارى الأصوات التي تبني، وتعلو الضوضاء التي تشجب وتدين. الحجاج بن يوسف الثقفي، ذاك الذي يمر في كتب التاريخ كريحٍ عاتية، يُسجَن في الذاكرة الجمعية بين تهم البطش وجبروت السلطة، بينما يغيب عن الكثيرين أنه لم يكن جلادًا يلهو بالدم، بل مشرطًا حادًا استدعته الدولة يوم تورّمت، وكان لا بد من البتر كي لا تموت الأمة.

ليست العظمة دائمًا أن تكون محبوبًا، بل أحيانًا، أن تكون مكروهًا بالحق. الحجاج لم يكن نبيًا ولا قديسًا، لكنه كان رجلًا أُرسل ليجعل من الفوضى نظامًا، ومن الانقسام وحدة، ومن التراخي قبضة، ومن الشتات دولة.

والحجاج كان فلسفة في حد ذاته؛ يؤمن أن العدالة لا تقوم على الحلم وحده، بل تحتاج إلى الردع. وأن الضعف في الحكم باب لكل طامع، وأن الهيبة ليست ترفًا بل ضرورة. هو من أولئك الذين يفهمون أن السيف ليس نقيض الحكمة، بل أحيانًا حارسها. كان يحكم كما لو أن على كتفيه أثقال الخلافة، لا رغبة السلطة. وإذا كان التاريخ يجلّ من يزرعون الحدائق، فلماذا ينسى من أزالوا الأشواك أولًا؟

كان يوقن أن الناس لا تستقيم بالسوط فقط، بل بالكلمة أيضًا، وكان من أعذب خطباء عصره. لغته نار ونور؛ تلسع وتضيء. حتى خصومه لم يستطيعوا إنكار فصاحته، ولا قدرته على تحويل الخوف إلى نظام، والهيبة إلى سلم.

ففي قسوته لم يكن ساديًا، بل وظيفيًا. الحجاج كان يرى أن الضعف خيانة، وأن التسامح مع المارقين خذلان للأمة. في زمنٍ تكالبت فيه الفتن، كان هو الجدار الأخير، السدّ الذي لولاه لتبعثر الناس كالرماد. وهل يُطلب من السد أن يكون ناعمًا؟ من الجدار أن يلين؟ إنما يُطلب منه أن يصمد، أن يمنع الطوفان، وهذا ما فعله الحجاج.

(ما بين العدل والحزم، خيط رفيع)
لقد ظُلم الحجاج لأنه اختار الصمت بعد الأفعال. لم يدافع عن نفسه، لم يكتب مذكراته، لم يراوغ كما يفعل الساسة. ترك فعله يتكلم، لكنه نُقل بأفواه من لم يحبوا الحزم، ومن خافوا من مرآة أنفسهم التي وضعها أمامهم. فكره البعض لأنه أوقفهم عند حدودهم. لعنوه لأنه كان أكبر من فسادهم، وأقوى من أهوائهم.

وفي مسرح التاريخ، هناك شخصيات جاءت لا لتُحب، بل لتُنقذ. الحجاج واحد من هؤلاء. لم يكن ملاكًا، لكنه لم يكن شيطانًا أيضًا. كان ضرورة. وكان، كما قال أحد الحكماء: “كالدواء المر، تكرهه شفتاك ويحييك جوفه.”

ولذلك، حين نقرأ الحجاج، لا نقرأه كقصة رجل جائر، بل كنص فلسفي عميق عن الحزم في مواجهة الفوضى، عن الدولة حين تحتاج لمن يحرسها لا من يطبطب على جراحها.

وفي نهاية المطاف، يبقى الحجاج بن يوسف الثقفي شخصية لا يمكن تأطيرها في قالب الخير أو الشر، بل تتجاوز ذلك إلى معاني الضرورة التاريخية والقيادة الحازمة. كان الحجاج تجسيدًا لعقل الدولة حين تستشعر خطر الانهيار، ولسيف العدالة حين ترتخي يد الرحمة في وجه الفوضى. لم يسعَ لمحبة الناس، بل سعى لحفظ كيان الأمة، ولو على حساب سمعته. في صمته عن التبرير، وفي مضيه الحاسم نحو الإصلاح، تجلت عظمة رجل فهم أن التاريخ لا يكتب بالمداد وحده، بل أحيانًا بالدمع والدم. ترك لنا الحجاج درسًا في أن الحكم مسؤولية، وأن القسوة في مواضعها قد تكون رحمة بعيدة النظر. وإن كانت سهامه قد أصابت الأبرياء أحيانًا، فإنها أيضًا أعادت للدولة توازنها. سيمر الزمان، وتخفت الأصداء، لكن ستبقى سيرته مثالًا حيًا على أن من يبني الأوطان قد لا يكون محبوبًا، لكنه في عمق التاريخ يكون ضروريًا.
بقلم:
ريم ماهر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى