د خالدمحمودعبداللطيف رئيس الاتحاد العالمى للعلماء والباحثين يكتب عن مكانة المرأة فى الاسلام
مما لا شك فيه أن الإسلامَ يخاطب الرجال والنساء على السواء ويعاملهم بطريقةٍ شبه متساويةٍ، وتهدفُ الشريعةُ الإسلاميةُ بشكلٍ عامٍ إلى غايةٍ متميزةٍ هي الحمايةُ، ويقدم التشريع للمرأة تعريفات دقيقة عما لها من حقوق ويُبدي اهتماماً شديداً بضمانها، فالقرآنُ والسنةُ يحُضَّان على معاملة المرأة بعدلٍ ورِفقٍ وعَطفٍ.
مما لا ريب فيه أن الإسلام رفعَ شأن المرأة في بلاد العرب وحَسَّنَ حالها، بل إن النبي – صلى الله عليه وسلم – أوصى الزوجات بطاعة أزواجهن، وقد أمر بالرفق بهن، ونهي عن تزويج الفتيات كُرهاً وعن أكل أموالهن، ولم يكن للنساء نصيبٌ في المواريث أيام الجاهلية، بل إنَّ الرجل كان إذا بشَّره أهله ببنتٍ اسودَّ وجهُهُ، وقد حكى القرآن ذلك، فقال – سبحانه وتعالى -: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)[1].
ومن صور تكريمها أيضاً قد نزلت سورة خاصة بهنَّ تسمى سورة النساء توضح فيها أحكام المواريث، وكيفية معاملة المرأة في حال نشوزها، فقال – عز وجل -: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)[2].
فقد بيَّن الله -تعالى- صفة المرأة الصالحة في هذه الآية، والمرأة التي في حال نشوزها بأن يعاملها الرجل بتدرج لطيفٍ رحيمٍ بالمرأة، حيث بدأ بالموعظة لها، ثم بهجرها في المضاجع، ثم في المرحلة القصوى بضربها بشرط أن يكون ضرباً غير مبرحٍ، وهذا يعدُّ من التكريم العظيم للمرأة من قِبَل الله الخالق الرحيم الرحمن.
ومن تكريمها أيضاً مساواة المرأة بالرجل في تعدد ألفاظ كل منهما في هذه السورة، وقد بيَّن الله – تعالى -فيها أحكام المواريث، ووعد فيها بالعقاب لمن خالف حدوده فيها، وجعل هذا التقسيم خاصاً به – سبحانه وتعالى -، فقال – عز وجل -: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)[النساء: 13، 14] [3].
ولا شك أنَّ الإسلام أمر بحُسن معاشرة الزوجة، وقد أباح للزوج مفارقة زوجته رغم أنَّه بغض الطلاق، فقال – عز وجل -: (… وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[4].
وقد انتهت هذه السورة المباركة أيضاً بتفصيلٍ بديعٍ لمن مات وليس له ولد فيما يسمى بالكلالة، أن يرثه مَن تبقَّى من أهله بالعدل والإنصاف دون ظُلمٍ أو جَورٍ للحقوق، فقال – عز وجل -: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[5].
وفي الجاهلية كانوا يقتلون البنات وهنَّ أحياء، ولمَّا جاء الإسلام حثَّ على تحريم وَأْد البنات، فقال – عز وجل -: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)[6].
وأمر بمعاملة النساء والأيتام بالعدل، وقد حرَّم الله -تعالى- فيما يسمى بزواج المتعة حديثاً، وحَمْل الإماء على البغاء فيما سمَّاه القرآن الكريم، فقال – عز وجل -: (… وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[7].
وذلك حرصاً على سلامة المرأة من المخاطر التي تتعرض لها في شخصها، والفتك بالمجتمع إذا سلكت هذا السبيل الذي نهي عنه ربنا، ونهي عنه نبيُّنا – صلى الله عليه وسلم -.
ضعف النساء:
لا شك أنَّ في النساء صورةٌ من صور الضعف، وهو ليس ضعفًا مذمومًا، فإنه من جانبٍ ليس مقصودًا منهن، ومن جانبٍ آخر محمود مرغوب، فأما الجانب غير المقصود فهو ضعف البِنيةِ والجِسم، وهذه لا حيلة لهنَّ فيها، فلا يلومهنَّ أحدٌ عليها، وأما الجانب المحمود فهو في ضعف القلب والعاطفة، بمعنى رقََّة المشاعر، وهدوء الطباع، وهو لا شكَّ أمرٌ محمودٌ في النساء، وكلما زاد – دون إفراط أو تفريطٍ – كان ألطفَ وأجملَ.
استوصوا بالنساء خيراً:
كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يُقَدِّر هذا الضعف في النساء، ويحرص على حمايتهنَّ من الأذى الجسدي أو المعنوي، ويُظهِر رحمته بهنَّ بأكثر من طريقةٍ، وفي أكثر من موقفٍ وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دائمَ الوصية بالنساء، وكان يقول لأصحابه: ((اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا)).
وتكررت منه نفس النصيحة في حجة الوداع، وهو يخاطب أمته، وكان يوقن أنَّ هذه الوصية من الأهمية بمكانٍ حتى يُفردَ لها جزءًا خاصًا من خطبته في هذا اليوم العظيم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((… وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فإنهن خُلقنَ من ضِلَعٍ، وإنَّ أعوجَ شئٍ في الضلَع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزلْ أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً))[8].
ويوضح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في جملة بلاغية أنَّ النساء يُماثِلن الرجال في القدر والمكانة، ولا ينتقص منهن أبداً كونُهنَّ نساء، فيقول – صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّما النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ))[9].
صور من رحمة النبي – صلى الله عليه وسلم – بالنساء:
في هذا العصر الذي تكالبت فيه قوى الظلم والبغي والعدوان للنيل من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، نجد الدعوات الصارخة من الحاقدين الحاسدين على الإسلام، والجاهلين بأخلاقياته وآدابه، لمساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات دون تفضيل، بل وتمييز المرأة أحياناً بأمور كثيرة عن الرجل، وذلك بدعوى أنهم في القرن الحادي والعشرين، يريدون أن يتقدموا بمثل هذه الأساليب البعيدة عن الإسلام وقيَمِه ومبادئهِ وتعاليمه، وكذبوا ظناً منهم بأنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان منذ أربعة عشر قرناً، فالحضارة الآن في نظرهم هي: التقدم والرقي ومحاكاة الغرب في جميع أفعالهم وأحوالهم، يريدون بالمرأة أن تخرج من خِدْرها، كي تلتهمها الذئابُ البشرية، وهم أول من يريدون التهامها، والهتكَ بعِرْضها، ولكن هيهات هيهات، وأين الثرى من الثريا، فقد جاء الإسلام الحنيف محافظاً على المرأة، آمراً إياها أن تلتزم بيتها، وإنْ خرجت تخرج في إطار ما سمح لها به الشرع، فقال الله – تعالى -: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً)[10].
كما جاء الإسلامُ كذلك ناصراً للمرأة في كل أحوالها وأعمارها، فقد كرمها الإسلام أُماً، وكرمها زوجاً، وكرمها طفلةً، غير أن الذي يُلفتُ النظرَ بصورة أكبر في رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنساء هو جانب التطبيق العملي في حياته -صلى الله عليه وسلم-، فلم تكن هذه الكلماتُ الرائعة مجردَ تسكينٍ لعاطفة النساء، أو تجمُّلٍ لا حقيقةَ له، بل كانت هذه الكلمات تُمارَس كلَّ يومٍ وكلَّ لحظةٍ في بيته – صلى الله عليه وسلم – وفي بيوت أصحابه رضوان الله عليهم.
فبهذه الصورة الميسرة حول تكريم الإسلام للمرأة، يتحدى كلُّ مسلمٍ موحدٍ بالله – تعالى -العالمَ أجمع أن يأتي لنا بموقفٍ من حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – آذى فيه امرأةً أو شقَّ عليها، سواء من زوجاته أو من نساء المسلمين، بل من نساء المشركين، ويكفي أن نتأمَّلَ بعضَ مواقفه – صلى الله عليه وسلم – مع النساء؛ لندرك مدى رحمته – صلى الله عليه وسلم – بهنَّ.
“اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى النبي – صلى الله عليه وسلم – فَسَمِعَ صَوْتَ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – ابنته- عَالِيًا، فَلَمَّا دَخَلَ تَنَاوَلَهَا لِيَلْطِمَهَا، وَقَالَ أَلا أَرَاكِ تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -، فَجَعَلَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَحْجِزُهُ وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُغْضَبًا، فَقَالَ النبي – صلى الله عليه وسلم – حِينَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي أَنْقَذْتُكِ مِنْ الرجُلِ؟ قَالَ: فَمَكَثَ أَبُو بَكْرٍ أَيامًا ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَوَجَدَهُمَا قَدْ اصْطَلَحَا فَقَالَ لَهُمَا: أَدْخِلانِي في سِلْمِكُمَا كَمَا أَدْخَلْتُمَانِي في حَرْبِكُمَا فَقَالَ النبي: قَدْ فَعَلْنَا قَدْ فَعَلْنَا”[11].
فرحمة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هنا قد فاقت رحمة الأب، فأبو عائشة – رضي الله عنها – هو أبو بكر الصديق- أراد أن يعاقبها على خطئها، ولكن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لرحمته بها حجز عنها أباها!.
وأحيانًا تخطئ زوجته – صلى الله عليه وسلم -: خطأً كبيرًا، ويكون هذا الخطأ أمام الناس، وقد يسبب ذلك الإحراج له، ومع ذلك فمن رحمته يُقدِّر موقفها، ويرحم ضعفها، ويعذر غيرتها، ولا ينفعل أو يتجاوز، إنما يتساهل ويعفو.
فقد روى أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “كان عِنْدَ بعْض نسائِهِ: فَأَرْسَلَتْ إحدى أمَّهات المؤمنين مع خادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتْ بيَدها فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ فَضَمَّها وجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ، وَقالَ: كُلُوا، وحبسَ الرسولَ والقصْعةَ حتى فَرَغوا، فدَفعَ القَصْعةَ الصحيحةَ وحبسَ الْمَكْسُورَةَ”[12].
لقد أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الموقف ببساطة، وجمع الطعام من على الأرض، وقال لضيوفه: كلوا، وقد عللَّ غضب زوجته بالغيرة في بعض الروايات الأخرى، فقال: ((غارتْ أمُّكم)) ولم ينسَ أن يرفع قدرها. فأيُّ رحمة هذه التي كانت في قلبه -صلى الله عليه وسلم-!.
تعقيبٌ:
ماذا لو جئنا بأحكم رجلٍ في هذا القرن؟ وماذا لو جئنا بفلاسفة القرن الحادي والعشرين كما يزعمون؟ ماذا لو حدث أمامهم هذا الموقف؟ أو لو كان هذا الموقف معهم، ماذا كانوا يفعلون؟ وما هو أقل تصرفٍ كان سيحدثُ؟
في نظري أقل تصرفٍ مع الحكماء والكرماء أنه سيُطَلِّقُ هذه الزوجة بعد ضربٍ مبرحٍ، هذا مع الحكماء فضلاً عن الجهلاء، فما رأيكم بنبي الإسلام أيها الفلاسفة، ما طلقها، ولا ضربها، بل رفع قدرها – صلى الله عليه وسلم -.
تكريم الإسلام للمرأة بكونها أماً:
لقد كرَّم الإسلام المرأة بكونها أُماً بأنْ أوصى الأبناء بحُسْن معاملة الآباء، وخاصةً الأم، فقد صوَّر القرآن الكريم هذا الأمر في تصويرٍ بليغٍ ومُعجزٍ في أكثر من موضعٍ، فقال الله -تعالى-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)[13].
وقال -تعالى- في الموضع الثاني: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[14].
وقال -تعالى- في الموضع الثالث: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)[15].
وقال -تعالى- في الموضع الأخير: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ)[16].
وقد ورد في سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – ما يُعَضِّدُ ذلك، فقد جاء رجلٌ إلى رسولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسولَ اللهِ، مَنْ أحقُّ الناسِ بحُسنِ صَحابتي؟ قال: ((أُمُّك، قال: ثم مَن؟ قال: ثم أُمُّك، قال: ثم مَنْ؟ قال: ثم أُمُّك، قال: ثم مَن؟ قال: ثم أبوك))[17].
فقد أوصى النبي – صلى الله عليه وسلم – بالأم ثلاث مراتٍ، لِما لها من تكريمٍ ومكانةٍ عظيمة، ورفعةً لشأنها، فما كُرمَتْ المرأةُ في أي شريعةٍ سوى شريعة الإسلام.
وعن طلحة بن معاوية السلمى قال: أتيتُ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ إني أريدُ الجهادَ في سبيلِ اللهِ -تعالى-، فقال: أُمُّكَ حَيَّةٌ؟ فقلتُ: نعمْ، فقال: ((الزم رِجْلَها فثمَّ الجنَّة))[18].
تكريم الإسلام للمرأة بكونها زوجاً:
ومما يمكن أن يُذكر في هذا الموضع ما أوصى به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حجة الوداع، إذ أوصى بالنساء، فقال: ((… فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنَّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله… )[19].
وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّما النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ))[20].
فقد جعلها الإسلام شقيقةً للرجل في كل أحواله وأفعاله، تشترك معه في تربية الأولاد، وتعمل على خدمتهم، واستقرار بيتهم، وباستقرار البيت بالزوجين يخرج بيتاً طيباً على الهدى النبوي، يساهم هذا البيت في بناء المجتمع، لذا يمكن أن يقال أنَّها نصف المجتمع، بل أكثر من نصفه، فالمرأةُ هي الأم، والزوجة، والبنت، والأخت.
تكريم الإسلام للمرأة بكونها طفلةً:
لمَّا جاء النبي – صلى الله عليه وسلم – كرَّم الطفلة، وجعل لها حقوقاً وعليها واجبات، وحذَّر من قضية وأد البنات التي كانت منتشرةً في الجاهلية، فمنذ ظهر نور الإسلام إذ نزل القرآن الكريم متعجباً من هذه القضية، ومن عدم توريث البنات الذي نراه الآن في مجتمعاتنا المعاصرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: “دخلتْ امرأةٌ معها ابنتانِ لها تسأَلُ، فلم تجدْ عندي شيئًا غيرَ تمرةٍ، فأَعطيتُهَا إيَّاها، فَقَسَمَتْهَا بينَ ابنتيْها، ولم تأكُلْ منها، ثم قامتْ فخرجتْ، فدخلَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – علينا فأخبرتُهُ، فقال: من ابْتُلِىَ من هذهِ البناتِ بشيءٍ كُنَّ لهُ سِترًا من النارِ”[21].
تكريم الإسلام للمرأة بكونها أرملةً:
لقد رفع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قدر الذي يرعى شئون الأرملة إلى درجة لا يتخيلها أحد، ومن أفضل ما يمكن ذكره هنا قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ في سَبِيلِ اللَّهِ أَو الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ))[22] فأيُّ فضلٍ وأيُّ عظمة هذه، ليس هذا إلا تكريماً وحفاظا على المرأة، فهي كالجوهرة في الإسلام، حيث يدافعُ عنها بكل قوةٍ وشجاعةٍ.
تكريم الإسلام للمرأة بكونها أَمَةً:
إنَّ هناك ما هو أعجب من ذلك، وهو رحمته – صلى الله عليه وسلم – بالإِمَاء، وهُنَّ الرقيق من النساء، فقد روى أنس بن مالك – رضي الله عنه – إذ قال: “إِنْ كَانَتْ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ”[23].
وقد علَّق ابن حجر – رحمه الله – على ذلك فقال: “والتعبير بأخذ اليد إشارة إلى غاية التصرف، حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة، والتمست منه مساعدتها على ذلك، وهذا دالٌ على مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكِبْرِ.
تعقيبٌ:
هل سمع العالم برئيس دولةٍ، أو قائدِ أمةٍ يذهبُ هنا وهناك ليقضى بنفسه حاجةَ امرأةٍ بسيطةٍ لا تعدو أن تكون خادمةً، بل هي أَمَةٌ مملوكةٌ، لا تملك من أمرها شيئًا؟
إن هذا الذي نراه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في معاملاته، وتكريمه للمرأة لمَن أبلغ الأدلة على نبوته – صلى الله عليه وسلم -، فلا تتأتَّى مثل هذه الأخلاق الرفيعة حقيقةً إلا من نبي، وصدق الله – تعالى -حيث قال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[24].
وأخيراً، أقول: إنَّ الإسلام قد رحم المرأة فأسقط عنها الصلاة والصيام أثناء الحيض والنفاس رحمة بها لما تعانيه من أتعاب حال الدورة والنفاس مع أنَّ الصلاة لا تسقط عن الرجل بأي حال، إلا الصوم فله فيه الرخصة المعلومة.
• الإسلام رحم المرأة فأسقط عنها النفقة فلا تُنفق على ولدها ولا والديها ولا زوجها بل لا تنفق على نفسها هي، ويلزم زوجها بالنفقة عليها.
• الإسلام رحم المرأة فأسقط عنها حضور الجُمَع والجماعات لاشتغالها بزوجها وبيتها.
• الإسلام رحم المرأة فأوجب لها مهراً كاملاً يدفعه الزوج لمجرد الخلوة بها، أو نصفه بمجرد العقد عليها.
• الإسلام رحم المرأة فورثها من زوجها حتى لو مات بمجرد عقده عليها.
• الإسلام رحم المرأة فقال أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك، تكريماً واعترافاً بحقها.
• الإسلام رحم المرأة فأسقط عنها الشهادة في الدماء والجنايات تقديراً لضعفها، ورعايةً لمشاعرها عند رؤية هذه الحوادث.
• الإسلام رحم المرأة فأسقط عنها فريضة الجهاد.
• الإسلام رحم المرأة فأسقط عنها فريضة الحج إذا لم يكن معها محرم يحرسها ويخدمها حتى ترجع.
• الإسلام رحم المرأة فجعل التقصير لها عند تمام النسك حفاظاً على جمالها وإبقاءً على رغبتها ولها أجر الحَلْق.
• الإسلام رحم المرأة فحَرَّم طلاقَها وهي حائضٌ مراعاةً لحالها، وحتى لا تطول عليها العدة.
• الإسلام رحم المرأة فجعل لها ميراثاً من زوجها وإخوانها وأولادها ووالديها رغمَ أنها لا تتحمل شيئاً من النفقة.
• الإسلام رحم المرأةَ فأوجب لها مهراً وحرَّمَ أخذ شيءٍ منه إلا بطيبِ نفسٍ منها.
• الإسلام رحم المرأة فحرَّم نكاحها بلا وليٍ ولا شهودٍ، حتى لا تُتَّهَمَ في عِرضها ونسب أولادها.
• الإسلام رحم المرأة فأوجب على مَنْ قَذَفَها في عِرْضِهَا جَلْدَ ثمانينَ جلدةً، ويُشَهَّر به في المجتمع ولا تُقبلُ شهادته أبداً.
• الإسلام رحم المرأة فجعل من يُقتل في سبيلها ليحافظ على عرضه ويدافع عنها جعله شهيداً.
• الإسلام رحم المرأة حتى بعد موتها فلا يُغسلها إلا زوجها أو نساء مثلها.
• الإسلام رحم المرأة فجعل كفنها أكثر من كفن الرجل فتكفن في خمسة أثواب رعاية لحرمتها.
• الإسلام رحم المرأةَ فأجاز لها الخلع إذا كرهت زوجها وأبى طلاقها.
• الإسلام رحم المرأة حتى عند الصلاة عليها تكون أبعد عن الإمام ويقف وسطها ليستر جسدها ممن وراءه.
هذا وما كان من توفيقٍ فمن الله وحده، وما كان من خطأٍ، أو سهوٍ، أو نسيانٍ، فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه الأطهار الأخيار ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أسألُ الله أنْ يتقبل منا العملَ الصالحَ، وأن ينفع به المسلمين في كل مكانٍ، وقد انتهيتُ منه بفضل الله وكرمه يوم الاثنين الموافق الحادي والعشرين من شهر الله المحرم لعام ألف وأربعمائةٍ وخمسةٍ وثلاثين من الهجرة المباركة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، الخامس والعشرين من شهر نوفمبر لعام ألفين وثلاثة عشر من الميلاد.
______________________________________________________________
[1] سورة النحل: 58، 59]. [2] سورة النساء: 34]. [3] النساء: 13، 14]. [4] النساء: 19]. [5] النساء: 176]. [6] التكوير: 8، 9]. [7] النور: 33]. [8] الحديث رواه البخاري في صحيحه رقم (5186) – كتاب النكاح – باب الوصاة بالنساء. [9] الحديث رواه السيوطي في الجامع الصغير رقم (2560)، من حديث عائشة وأنس بن مالك. [10] الأحزاب: 33]. [11] الحديث رواه النعمان بن بشير، وذكره ابن حجر العسقلاني في كتابه: هداية الرواة إلى تخريج أحاديث المصابيح والمشكاة – تحقيق / علي بن حسن بن عبدالحميد الحلبي رقم (400) -دار ابن القيم- الدمام – ط الأولى سنة 1422 هـ. [12] الحديث رواه البخاري رقم (2481) في كتاب المظالم – باب إذا كسر قَصعةً أو شيئاً لغيره. [13] الإسراء: 23]. [14] العنكبوت: 8]. [15] لقمان: 14]. [16] الأحقاف: 15]. [17] الحديث رواه البخاري عن أبي هريرة رقم (5971) في كتاب الأدب – باب مَن أحق الناس بحسن الصُّحْبة. [18] الحديث رواه ابن كثير في كتاب المسانيد والسنن رقم (5529) تحقيق / عبدالملك بن دهيش – مكتبة الأسدي – مكة المكرمة – ط الثالثة 1425 هـ. [19] الحديث رواه الألباني في كتاب صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم (2068) – تحقيق / زهير الشاويش – المكتب الإسلامي – بيروت – ط الثالثة 1408 هـ. [20] الحديث رواه السيوطي في الجامع الصغير رقم (2560)، من حديث عائشة وأنس بن مالك. [21] الحديث رواه البخاري رقم (1418) في كتاب الزكاة – باب اتقوا النار ولو بشق تمرة، والقليل من الصدقة. [22] الحديث رواه البخاري رقم (5353) في كتاب النفقات – باب فضل النفقة على الأهل. [23] الحديث رواه البخاري رقم (6072) في كتاب الأدب – باب الكبر. [24] [الأنبياء:107].