مقالات
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن جهود المؤرخين المسلمين فى فلسفة التاريخ
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن جهود المؤرخين المسلمين
فى فلسفة التاريخ
بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
اهتمَّ المؤرِّخونَ الأوَّلون – (كابن جَرِير الطبري، وغيره) – بالجمعِ، وتركوا للاحِقين مَهمَّة النقدِ والتمحيصِ، ثُمَّ تطوَّر علم التاريخ عند المسلمين وبدأ بعضُهم يتحرَّر مِنَ الالتزام بمنهجِ الرواية فقط، فقد يُهمِلونها إهمالًا، وقد يلجؤونَ إليها حينَ تثبُتُ لهم الأسانيد، كما بدؤوا يتطلَّعون إلى المعاينةِ، ومراجعة المصادر والوثائق في مصادرها الأُولَى، مع الاهتمام بمعنى التاريخ، والتجرِبة الشخصيَّة، والملاحظة المباشرة، والبحث العقليِّ المنهجي في المادة التاريخيَّة المدروسة، والتوسُّع الثقافيِّ في مفهوم التاريخ، وربط الأسباب بمسبِّباتها، وربط الأحداث والظواهر الاجتماعيَّة في كُلٍّ واحدٍ.
يقول العلَّامة السخاوي: “إنَّ التاريخ يلتحِقُ به ما يتَّفق به مِنَ الحوادث والوقائع الجليلة، والحاصل أَنَّه فنٌّ يبحث عَن وقائع الزمان في العالم”[1].
وكانَ في مقدِّمة السالكين للمنهج الجديد في دراسة التاريخ: أبو الحسن المسعودي، وابن خلدون.
أولًا: أبو الحسن المسعودي[2] “هيرودوت العرب”:
وقد نقَّب بكتابه (مُرُوج الذَّهب ومَعادِن الجوهر) في تواريخ المسلمين واليهود والرومان والهنود وغيرهم، ونهجَ منهجًا جديدًا في دراسة التاريخ على (المنهج الموضوعي)، بعدَ أن كانَ سائدًا (نظام الحوليات)، وكان يُعنَى بأثرِ المناخ والبيئة الجغرافيَّة فيما يُناقش مِن قضايا التاريخ، وقد جمعَ مِن الحقائق التاريخيَّة والجغرافيَّة ما لم يسبقه إليه أحد[3].
ثانيًّا: ابن خلدون[4] “فيلسوف التاريخ، ومؤسِّس علم الاجتماع”:
جاء ابن خلدون شارحًا ومُمحصًا ومُعلِّلًا وناقدًا لآراء كل مَن سبَقوه؛ (كابن هشام، وابن إسحاق، والواقدي، والبلاذري، وابن عبدالحكم، والطبري، والمسعودي، وابن الأثير، والجرجاني، وابن الكلبي، والبيلي)[5]؛ حيثُ كان التاريخ قبلَ العلَّامة ابن خلدون فنًّا مِن فنون الأدب، ولونًا من ألوان الكتابة الإنشائيَّة، يُعنَى فيهِ بجمالِ السرد، وانتقاء العبارة، وتزيين اللفظ، وتنميق الكلام، ثُمَّ سرد الأحداث التاريخيَّة كما وقعت – أو كما تصوَّرها صاحبُها – [في سنة كذا، حصل كذا وكذا مِن الأحداثِ، ثُمَّ دخلت سنة كذا، فحدث غيرها أو مثيلها]، وهو نمطٌ لا يكادُ يتغيَّر في كتب التاريخ إلا باختلاف الأسلوب بين كاتب وكاتب، ويتراوح بينَ الركاكة والإجادة، (بما يطرأ على العصورِ من رُقيٍّ أو انحطاط).
لكن ابن خلدون أنشأ مِنَ التاريخ (عِلْمًا) يغوص في أعماقِهِ، ويُحلِّل أحداثه، ويسبر أغوارَه، ولا يكتفي فيهِ بالسردِ المجرَّد.
يقولُ: “أنشأتُ في التاريخِ كتابًا وفصَّلته في الأخبارِ والاعتبار بابًا بابًا، وأبديتُ فيه لأوَّلية الدول والعمران عِللًا وأسبابًا، وهذَّبت مناحيَه تهذيبًا، وسلكتُ في ترتيبِهِ وتبويبِهِ مسلكًا غريبًا، وطريقةً مبتدَعةً وأسلوبًا، وشرحتُ فيهِ من أحوالِ العمران والتمدُّن، وما يعرض في الاجتماعِ الإنساني مِن العوارض الذاتيَّة – ما يمتعكَ بعلل الكوائن وأسبابها”[6].
كما يركز على أَنَّ التاريخ يجب ألا يُفهَم أو يُؤخَذ على ظاهره فقط، بحيثُ لا يزيد على مجرد النقل، وتسجيل الظواهر، بل يجب أن يُفهَم التاريخ من باطنه أيضًا.
فيقول: “التاريخ في ظاهره لا يزيد على أخبار الأيَّام والدول والسوابق مِنَ القرون الأُوَل، وفي باطِنهِ نظرٌ وتحقيق، وتعليلٌ للكائنات ومبادئها دقيق، وعلمٌ[7] بكيفيَّات الوقائع وأسبابها عميق؛ فهو لذلك أصيل في الحكمةِ عريق، وجدير بِأنْ يُعد في علومها وخليق”[8].
وإذا نظرنا إلى التاريخ باعتبارهِ مجرَّدَ حوادث تتعاقَبُ دونَ ما يربط بينها، فإنَّ هذه النظرة تؤدِّي إلى نتائجَ مُغايِرة لتلكَ النتائج التي تنتج عن نظرنا إليه حينما نعتبره سيرًا مطردًا تترتب فيهِ الحوادث ترتيبًا منطقيًّا، كما تترتَّب الأسباب عن مسبباتها؛ فإنَّ النظرة الأولى تؤدي إلى تسجيل ما يطرأ مِن حوادث في أنفسنا ومذكراتنا على أنه مِن حكم القضاء والقدر، ولا يَسَعُه أمامه سوى الإذعان ومسايرة الظروف، أو كما يُعبِّر البعض عنه بـ(الاستسلام للواقع).
فهذه النظرة تجعلُنا نطأطئ الرُّؤوس أمام الأحداث؛ لأنَّ جهلَنا بأسبابها ونتائجها يؤدِّي بنا إلى أن نحني لثقلِها ظهورَنا، فإذا ما وضعَتْها عن ظهورِنا يدُ الموت، ألقَتْها على كاهل الأجيال مِنْ بعدنا.
أمَّا نظرتنا الثانيَّة إليهِ، فإنَّه بدلًا من أن تُلقِي على أكتافنا ثقل الأحداث، تجعلُنا نُحدِّد إزاءها مسؤوليَّتَنا، فبقدرِ ما نُدرِك مِن أسبابها ونقيسها بمقياس صحيح، نرى فيها مُنبِّهات لإرادتنا، ومُوجِّهات لنشاطنا، وبقدرِ مَا نكشف من أسرارها نسيطر عليها بدلًا من أن تسيطر علينا، فنوجِّهُها نحنُ ولا توجِّهنا هي؛ لأننا حينئذٍ نعلم أنَّ الأسباب التاريخيَّة كلَّها تصدر عن سلوكنا، وتنبع من أنفسنا[9] ومن إرادتنا في تغيير الأشياء تغييرًا يحدِّد وظيفتنا الاجتماعيَّة كما رسمها القرآنُ الكريم، ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110]، والمعروف في أعمِّ صوره، والمنكرُ في أشمل معانيهِ – يكونانِ جوهر الأحداث التي تواجهنا يوميًّا، كما يكونانِ لبَّ التاريخ.
وعلى ذلك؛ فابن خلدون دلَّل في هذه القضيَّة على بصيرة فائقة، وعبقريَّة خارقة؛ إذ ابتدعَ طريقةً جديدة في درس التاريخ وتفسيرهِ، طريقة لم يُقدِّر أهميتَها علماء الغرب إلا بعد مرور ستة قرونٍ منذ ابتداعِ ابن خلدونَ لها[10] في كتابه (العِبَر، وديوان المبتدأ والخبر، في تاريخ العرب والعجم والبربر، ومَن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)، وقد تعرَّضَ ابن خلدون في هذا الكتاب إلى موضوعات هذا العلم، ودرس ظواهرها، وحَلَّلَ أسبابها بدقة وموضوعيَّة[11].
فهو يدرس ظواهرَ الشعوب التي عاش بين ظَهْرَانَيْها، وعرَف حقائقها، وخبَرَ أحوالها، ثمَّ يُوازِن بينها وبين ما عرَف من أشباهها ونظائرها من بطون الكتب وسرد التاريخ؛ ليصل من ذلك إلى معرفةِ ما تخضع له الظواهر من قوانين.
إنه يُعَدُّ بحقٍّ أوَّلَ المؤرِّخين المسلمين (القدامى والمعاصرين) في تطبيقِ منهج البحث العلميِّ في الكتابة عن فلسفةِ التاريخ؛ حيث نظر إلى التاريخ نظرةً شاملة، وابتكر مِن دراسات المؤرخين السابقين عليهِ آراءً جديدة في التاريخ، قائمةً على النقد والتحليل والتعليل؛ حيثُ يقول: “واعلَمْ أن الكلام في هذا الغَرَض مُستحدَثُ الصَّنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، أعثر عليه البحث، وأوي إليهِ الغوث، وهو علمٌ مُستنبَط النشأة، ولَعَمْرِي لَم أقف على الكلام في مَنْحَاهُ لأحدٍ مِنَ الخليقةِ، ما أدري ألغفلتِهم عَن ذلك؟ أو لعلَّهم كتَبوا في هذا الغرض واستوفُوه، ولم يصل إلينا؟ فالعلوم كثيرة، والحكماء متعدِّدونَ، ومَا لم يصل إلينا من العلوم أكثر مِمَّا وصلَ، فأين علوم العرب والكلدانيين والسريانيين وأهل بابل، وما ظهر عليهم من آثارها ونتائجها؟ وأينَ علوم القِبْط ومَن قبلَهم؟ وإنما وصل إلينا علومُ أمةٍ واحدة، وهم يونان خاصة؛ لكَلَفِ المأمون العباسيِّ بإخراجها مِن لغتهم، ولم نقف على شيءٍ من علومِ غيرهم”[12].
وابن خلدون إذ يُمهِّد السبيل لعلمٍ جديد، وهو (علم فلسفة التاريخ) بمنهجه الجديد، لا يُشير إلا لمسائلِهِ الكُبرى، ولا يُنوِّه بموضوعهِ ومنهجهِ إلا بالإجمالِ، وهو يرجو أن يأتي مَن بعده فيواصلوا أبحاثه، ويُظهِروا مسائل جديدةً، معتمدين على الفكر الصحيح، والعلم المُبِين، قائلًا في ختام مقدمتهِ عن التاريخ: “وقد استوفَيْنا من مسائلهِ ما حسِبناه كفايةً، ولعلَّ مَن يأتي بعدنَا – مما يُؤيِّده الله بفكرٍ صحيحٍ، وعلم مبينٍ – يغوص مِن مسائله أكثرَ مما كتبنا، فليس على مُستنبِط الفنِّ إحصاءُ مسائلهِ؛ وإنما عليهِ تعيينُ موضوع العلم وتنويع فصوِلِه مما يتكلم فيهِ، والمتأخرون يُلحِقون المسائل مِن بعدهِ شيئًا فشيئًا إلى أن يكمُلَ”[13].
وهكذا أصبحَتِ الدراسةُ التاريخيَّة دراسةً تخصصيَّة، تنحَّى عنها الفقيه والمفسِّر والمحدِّث، وتركوها لمؤلِّفين أشملَ رؤيةً، وأعمق تحليلًا، وأقدر على فهم الظواهر البيئيَّة والاجتماعيَّة التي تتميَّز بها الأقاليم الإسلاميَّة المختلفة بضوابطَ منهجيَّةٍ علميَّة.
________________________________________
[1] الإعلان بالتوبيخ – الحافظ السخاوي (ص18، 19).
[2] هو علي بن الحسن بن علي، أبو الحسن المسعودي، من ذريَّة عبداللهِ بن مسعود، وهو مُؤرِّخ رحَّالة بحَّاثة، من أهل بغداد، أقامَ بمصر وتوفِّي بها سنة 346 هـ.
[3] العرب تاريخ وحضارة – آنتوتي ناتنج – تحقيق: محمود مسعود، (ج1 ص117)، طبعة/ الهلال – مصر 1400 هـ 1980م، وانظر: أُسس مفهوم الحضارة في الإسلام – سليمان الخطيب (ص47).
[4] هو ولي الدين عبدالرحمن بن عبدالرحمن بن خلدون المالكي، المولود سنة 732 هـ في تونس، ونشأ فيها، وكانت في ذلك الحين تَمُوجُ بأفواجٍ من العلماء نزحوا إليها من الأندلس بعد أن اضطربت أمورها، وتلقَّى ثقافته الأولى على يد والدهِ، وحفِظ القرآن الكريم، ووعى كثيرًا من أصول اللغةِ والآداب والنحو، وأجادَ الأصول والفقه على مذهب الإمام مالك، وقرأ في التفسير والحديث، وتعمق في الدراسات الفلسفيَّة والمنطق والتاريخ، وغيرها.
[5] مقدمة ابن خلدون (ص17 وما بعدها).
[6] المقدمة – (ص14).
[7] وقد اختلفَ العلماء في تفسير مقصد ابن خلدون بكلمة (علم) التي تكرَّرت كثيرًا في مقدمتهِ:
فرأى بعضهم أنَّه كانَ يقصد بِهَا العِلْم كما نفهمه نحن اليوم؛ (نظرًا ودرسًا، واستقراءً واستنباطًا).
ورأى بعضهم أنَّه مَا كانَ ليخطرَ على بالِ ابن خلدون مثل هذا المعنى للعلم، وأنَّ كل ما كان يقصده: العلم بمعنى المعرفة العامة.
والحاصل أنَّ أصحاب الرأي الأوَّلِ نظروا إلى ما صاحَب ابنَ خلدون من تفسير للعلمِ، وما اقترنَ به مِن ألفاظ عن التعليل والكيفيَّة، فلم يستكثروا عليهِ أن يكون قد فطِن إلى مدلول العلم بأوسع نطاقِهِ.
ونظر أصحاب الرأي الثاني إلى ظاهرِ اللفظ دونَ سواه، واستكثروا على ابنِ خلدون أن يُنشِئ عِلْمًا أو يستنبط منهجًا.
وكانَ من أصحاب الرأي الأول المستشرقانِ: دي سيلان، وجورج سارتون، وقد ترجمَ دي سيلان مقدمة ابن خلدون، فنقلَ كلمة (علم) بمفهومها العلميِّ الحديث، وتحدَّثَ عنه جورج سارتون في كتابه “مدخل لتاريخ العلم”، فقال: (إِنَّه مِنَ المدهش أن يكونَ ابنُ خلدون قد توصَّل في تفكيرهِ إلى مَا يُسمَّى اليوم بطريقة البحث العلمي).
أمَّا أصحاب الرأي الثاني، فقد كانَ منهم الدكتور طه حسين، الذي رأى أنَّ دي سيلان وغيره قد أخطأ في ترجمة كلمة (علم) عندَ ابن خلدون، وأنه أسرفَ في إعطائها مفهومَ العلم في العصور الحديثة، وأن ابن خلدونَ لم يكن يقصد بِهَا سوى مفهوم المعرفة العامة؛ انظر: ابن خلدون مُقنِّن التاريخ ومؤسس علم الاجتماع – عزت محمد إبراهيم، (ص90؛ مجلة الوعي الإسلامي، العدد [115] 1394 هـ، 1974م).
[8] المقدمة (ص9).
[9] تأملات – مالك بن نبي (ص126).
[10] المرجع السابق (ص82).
[11] لم يكن للنَّاس قبل ابن خلدون عنايةٌ بربط الأسباب بمسبباتها فيما يتعلق بظواهر العمران والاجتماع وتقنين القوانين لها؛ وإنما كان عندهم مجرد ظواهر لا تخضع لقانون، ولا ترتبط بعلَّةٍ، ولا يتقدَّمها سببٌ يؤدِّي إلى نتيجة، كما لم يكن للناسِ قبل ابن خلدون عنايةٌ بربط الأسباب بمسبباتها فيما يتعلَّق بالجغرافيا وعلم الحياة والرياضة.
[12] المقدمة – (ص34 – 35).
[13] المقدمة – (ص366).
________________________________________