مقالات
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن السيرة في ضوء القرآن الكريم
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن السيرة في ضوء القرآن الكريم
بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لا شك فيه أننا لو تأملنا السيرة النبوية نرى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يَصِل إلى تكوين مجتمعه وَفْق أي أسلوبٍ من الأساليب المعهودة في إقامة الدول وتكوين المجتمعات، إنما كان له في تكوين مجتمعه وإقامة دولته منهجٌ منفرد، محدَّد المعالم، واضح السمات.
ونستطيع أن ندرك معالم المنهج النبوي في تكوين المجتمع، من تتبع خطوات السيرة، فقد مرَّت سيرته – صلى الله عليه وسلم – بمرحلتينِ أو عهدين، وكان لكل عهدٍ منهما ظروفُه وسماته وخصائصه وقرآنه الذي أنزل فيه.
العهد المكي كان خالصًا للدعوة والتربية، ومدته ثلاثة عشر عامًا، وهو عهد الإعداد لتكوين المجتمع، لم تفرض فيه شعائر جماعية، ولا فرائض إلا الصلاة، ولم ينزل فيه تشريع، ولم يؤذَن فيه بقتالٍ، حتى إذا تمَّ تكوين الجماعة المؤمنة التي تصلح أساسًا لبناء المجتمع، تمَّت الهجرة إلى المدينة؛ حيث بدأ العهد المدني، ومدته عشر سنين، وفيه تم تكوين المجتمع وإقامة الدولة، ونزل القرآن الكريم بالتشريع والإذن بالقتال، وتم فيه اكتمال تطبيق مبادئ الإسلام.
وبالرغم من أن العهد الملكي كان أطول العهدينِ، فإنه خلا تمامًا من كل عمل غير الدعوة إلى الله والتربية، فلم يتوفَّر فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – على إصلاح أوجهِ الفساد التي كانت متفشِّية في مجتمع مكة، ولم يحاول تحطيم الأصنام التي كان يمتلئ بها بيت الله الحرام، ولم يسمح للجماعة المؤمنة بمقاومة عدوان قريش، رغم ما كان ينطوي عليه ذلك العدوان من القسوة والضراوة، وجنَّب جماعته تمامًا كل الاشتباكات الفردية والمعارك الجانبية، وفرَّغ نفسه تمامًا بعد الدعوة إلى الله لتربية المؤمنين، فصبر نفسه معهم ثلاثة عشر عامًا، يجتمع بهم بعيدًا عن أنظار قريش في دار الأرقم، يتلو عليهم ما ينزل عليه من قرآن، ويسكب في قلوبهم الإيمان، وينظم حركتهم، ويروِّضهم على الصبر والاحتمال والمغفرة، حتى أصبحوا ترجمة عملية لمبادئ القرآن الكريم في واقع الحياة.
فالتربية إذًا مرحلةٌ حتمية تسبق مرحلة تكوين المجتمع وإقامة الدولة، ولا يعني هذا بطبيعة الحال أن التربية تنتهي بانتهاء عهد الإعداد، ولكنها كما نلمس في السيرة تستمرُّ في مجال أوسع في مناخ أكثر ملاءمة في مجتمع تسودُه مبادئ الإسلام.
وهذا المنهج الذي نهجه النبي الكريم – صلوات الله وسلامه عليه – من تكوين مجتمعه، هو سر قوة الرعيل المؤمن الأول، وسر طهارة مجتمع المدينة، وسر سمو الأمة المسلمة التي زكَّاها الله – تعالى – فقال: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110].
والتربية لا يمكن أن تؤتِي ثمارَها إلا بالقدوة، فالمبادئ وحدَها مهما سَمَت لا تكفي، وشر ما تبتلى به أمة ويصاب به مجتمع أن تتحوَّل المبادئ إلى مواعظ وخطب وشعارات، لا يطبقها الدعاة إليها، فيسمع الناس قولاً جميلاً ويرون عملاً قبيحًا.. فلا تجد الخطبُ والمواعظ سبيلَها إلى القلوب، وتبقى مجرَّد كلام وشعارات، ليس لها أثر في واقع الحياة.
فالقدوة هي أعظم عناصر التربية، كلما قاربت الكمال، وكلما كانت تطبيقًا عمليًّا لما تدعو وتربِّي عليه، كان أثرها عظيمًا، وكانت ثمارها بقدر تطبيق مبادئها.
والقدوة أو الأسوة الحسنة كتعبيرِ القرآن للأمة المسلمة هو النبي – صلى الله عليه وسلم – فالله تعالى يقول للمؤمنين: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
وجعل طاعته من طاعة الله، فقال: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء: 80].
وأمر صراحة بطاعته، فقال: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 54]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 33]، ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7].
وتعني هذه الآيات وغيرُها في القرآن كثيرًا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد بلغ الكمال كأقصى ما يبلغه بشر، كما تعني عصمة النبوة عن مظنة الخطأ.
وقد تحدَّث عن هذه العصمة كثيرٌ من العلماء والكتَّاب، منهم في العصر الحديث المرحوم الإمام محمد مصطفى المراغي في تقديمه لكتاب المرحوم الدكتور محمد حسين هيكل “حياة محمد”، فقال: “منذ وجد الإنسان على الأرض وهو متشوق إلى تعرُّف ما في الكون المحيط به من سنن وخصائص، وكلما أمعن في المعرفة ظهرت له عظمة الكون أكثر من ذي قبل، وظهر له ضعفه وتضاءل غروره، ونبي الإسلام – صلوات الله وسلامه عليه – شبيه بالوجود، فقد جد العلماء منذ أشرقت الأرض بنوره يتلمَّسون نواحي العظمة الإنسانية فيه، ويتلمسون مظاهر أسماء الله – جلَّت قدرته – في عقله وخلقه وعلمه، ومع أنهم استطاعوا الوصول إلى شيء من المعرفة، فقد فاتهم حتى الآن كمال المعرفة، وأمامهم جهاد طويل، وبُعْد شاسع، وطريق لا نهاية له.
عصمة الأنبياء في التبليغ وأداء أمانة الوحي قضية فرغ العلماء منها، فليس للأنبياء فضل الاختيار في التبليغ وأداء الأمانة بعد طبعهم بخاتم النبوة واختيارهم لها، وهذا التبليغ نتيجة حتمية لنبوة لا مردَّ لها، غير أن الوحي لا يلازم الأنبياء في كل عمل يصدر عنهم، وفي كل قول يبدر منهم، فهو عرضه للخطأ بعد صدوره، ويعاتبهم عليه أحيانًا”.
وفي اعتقادي أن عصمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – كانت أعظم وأبعد مدى من ذلك، فالله – تعالى – يعلم أنه خاتم الأنبياء وسوف ينقطع الوحي من بعده، وسوف يكون أسوة البشرية إلى آخر الزمان، فأعدَّه إعدادًا خاصًّا يتَّفِق مع هذه الرسالة، فكان في شبابه قبل البعثة يُعرَف بين قريش بالأمين، ووصفته السيدة خديجة ليلة أوحي إليه، فقالت: والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتَصِلُ الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَل، وتَقرِي الضيف، وتُعِين على نوائب الحق.
هذه بعض صفاته قبل الرسالة، فلما بعث مكث ثلاثة عشر عامًا يدعو إلى الله، فكوَّن مجتمعًا، وأقام دولة وأنشأ أمة وبنى حضارة، ولم يستطع أعداؤه – وهم كثير – أن يحصلوا على كلمة واحدة تخالف مبادئه، فكان لا يقول إلا الحق، ولا ينصرف إلا بالحق في الرضا والغضب، ولحق بربه وليس لمخلوق عليه مظلمة.
ونستطيع أن نلمح هذا الإعداد وهذه العصمة في تزكية الله تعالى للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقد زكَّاه تزكية كاملة في كتابه الكريم فزكى قلبه، فقال: ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ [النجم: 17]، وزكى أمانته، فقال: ﴿ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ﴾ [التكوير: 24]؛ أي: متهم، وزكى خُلُقه، فقال: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وزكى علمه، فقال: ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113]، وزكى صدقه، فقال: ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33]، ثم وصفه بصفتينِ من صفاته، فقال: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، فماذا يمكن أن يقول بشر بعد قول الله تعالى؟!
والمتأمِّل في القرآن الكريم والسيرة يحار كيف يمكن أن يحيط بكل جوانب شخصية الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – وقد يكون من الممكن تناول جانب واحد أو بعض الجوانب، أما الإحاطة الشاملة بجميع جوانبها، فغاية لا يمكن أن يبلغها الإنسان.
لقد نجح – صلى الله عليه وسلم – نجاحًا باهرًا في العهد المكي، فقد استطاع أن يشغلَ المجتمع المكي كلَّه بدعوته، بين مؤمن ومكذِّب:
أما المؤمنون، فقد تجرَّدوا للدعوة تجردًا كالأم، وبذلوا كل ما يملكون في سبيلها، فعاشوا بها ولها، ولم يضنُّوا بشيء في سبيل نصرتها، وتحملوا الأهوال طوال ثلاثة عشر عامًا، حتى تم العهد المكي بالهجرة إلى المدينة.
وأما المشركون، فقد جعلوا من مقاومة الدعوة شغلهم الشاغل، فلم يدَعوا وسيلة إلا جرَّبوها، ساوَمُوا النبي – صلى الله عليه وسلم – بالملك والمال، وأجمعوا على مقاطعته مقاطعة كاملة، هو وأهل بيته ومن معه من المؤمنين؛ حتى يموتوا جوعًا أو يسلِموه، وحالوا بين جماهير العرب وبين سماع القرآن، واتهموه بالسحر والجنون، ومكروا به ليُثبِتوه أو يقتلوه أو يُخرِجوه، وعذَّبوا المؤمنين بشتى صنوف العذاب، وبهذا لم يبقَ إنسان في المجتمع المكي يقف موقفًا سلبيًّا من الدعوة، وهذا أقصى ما يصل إليه صاحب دعوة من نجاح.
هذه واحدة.. والثانية أنه سلك منهجًا فريدًا غير مسبوق في تكوين المجتمع، فأعدَّ جماعة مؤمنة التقطها من مجتمع وثني، ونقلها نقلة هائلة في جبل واحد من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، وكانت تربية هذه الجماعة هي أعظمَ أهدافه طوال العهد المكي، حتى أصبحت مثلاً حيًّا لمبادئ القرآن الكريم، وكانت هذه الجماعة المؤمنة هي الأساس القوي الذي بنى عليه مجتمعه في المدينة؛ أي إنه بلُغَة العصر قد أعد الكوادر المؤمنة، واللبنات الصلبة، قبل أن يقيم بناء المجتمع، وبذلك جنَّب مجتمعه كلَّ الانحرافات والمتاعب التي وقع فيها أصحاب الدعوات وبُناة الدول حين لم يسلكوا هذا الطريق، ولم يطبقوا هذا المنهج.
ولا يستطيع إنسان أن يدرك مدى عظمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ومدى رجاحة عقله وبُعْد نظره، إلا إذا وازن بين منهجه في إقامة المجتمع المسلم وبين كل ثورات التاريخ التي نجحت في الوصول إلى الحكم وحاولت تغيير المجتمعات، ومدى ما كلفت البشرية من ضحايا ودماء، ومدى ما وقعت فيه من مظالم وانحرافات، بسبب إغفال جانب التربية وإعداد المؤمنين قبل بناء المجتمع.
والثالثة: حكمته في قيادة الرجال، فقد جمع حوله رجالاً مختلفي المواهب والميول، ومختلفي الطباع والأجناس، فقد آمن به الغني والفقير، والحر والعبد، والعربي والأعجمي، والقوي والضعيف، واللين والشديد، والهادئ والمندفع، فكوَّن منهم جماعة موحدة كانت مثلاً فريدًا في الأخوَّة والحب، والتكافل والإيثار، ثم كان يقف معهم في أحرج الظروف مواقف كلها الحكمة والتوفيق والسداد، وكانت – لولا حكمته – تنذر بشرٍّ خطير.
من هذه المواقف موقفه من الأنصار في مكة بعد أن عادوا بغنائم هوازن بعد معركة حُنَين، فقد وزَّع خُمسًا على عددٍ من رجالات قريش تأليفًا لقلوبهم؛ حيث كانوا حديثي عهد بالإسلام، فجعل الأنصار يتحدث بعضهم إلى بعض، فقالوا: لقي واللهِ رسولُ الله قومَه.. وقام سعد بن عُبادة فأبلغ النبي الكريم خبرَ غضبِ الأنصار، فقال له: ((اجمع لي قومك))، فجمعهم سعد، وأتاهم النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال لهم: ((يا معشر الأنصار، ما قالةٌ بلغتْني عنكم، وجِدَة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتِكم ضلاَّلاً فهداكم الله، وأعداءً فألَّف بين قلوبكم؟))، قالوا: بلى، الله ورسوله أمنُّ وأفضلُ، قال: ((ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟))، قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسولِه المنُّ والفضل، قال: ((أما والله لو شئتُم لقلتُم ولصدَقتُم ولصُدِّقتُم.. أتيتَنا مكذَّبًا فصدَّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلاً فآسيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألَّفت بها قومًا ليُسلِموا، ووكلتكم إلى إسلامِكم، ألا ترضَون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالِكم، فوالذي نفس محمد بيدِه لولا الهجرةُ لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلَك الناس شِعبًا وسلكتِ الأنصار شِعبًا لسلكتُ شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار))، فبكى الأنصار، وقالوا: رَضِينا برسول الله قسمًا وحظًّا.
هذا موقف واحد يعطي فكرة عن كيفية قيادة النبي – صلى الله عليه وسلم – لهذه الجماعة المسلمة.
والرابعة: أنه استطاع في جيل واحد أن يُحدِث تغييرًا عظيمًا في جزيرة العرب، وأن ينقُل أهلها نقلة هائلة من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، ينقلهم في عقيدتهم، وفي تصوارتهم، وفي أخلاقهم وقيمهم، وفي سلوكهم وأهدافهم، وأن يُوجِد في هذه الجزيرة من الفُرْقة وحدة، ومن الجهالة علمًا، ومن البداوة حضارة، ومن الفوضى نظامًا، ومن جوف الصحراء خير أمة أخرجت للناس.
والخامسة: شخصه الكريم، وحسب القائل عنه أن يقول: إنه وصل ذروة الكمال في كل خُلُق، وعهدُ الناس بعظماء التاريخ أن العظيم منهم كان عظيمًا في خلق، أو حرفة، أو علم، أو فن، فيتميز في شيء واحد، أما أن يكون عالمًا عظيمًا، وطبيبًا عظيمًا، فهذا لون من العظمة لم تعرفه البشرية قط إلا في شخص النبي الكريم – صلوات الله وسلامه عليه.
عهد الناس ببُناة الدول أنهم عادة قساة، يسلكون كل السبل لتحقيق أهدافهم، وكثير منهم – بل معظمهم – وصل إلى تثبيت سلطانه على جبال من الضحايا، وخاضوا بحورًا من الدماء، وارتكب مظالم يَشِيب لهولِها الولدان، ثم وجد دُعاةً أو مؤرِّخين يبرِّرون خطاياه ومظالِمَه، بحجة أن الثورات أو بناء الدولة لا يمكن أن يتم إلا عن هذ الطريق.
ثم تأمل النبي – صلى الله عليه وسلم – نجد أنه بنَى دولة وحكمها عشر سنين، فكان إمامَها وقائدها، وعالمها وقاضيها، وأمين أموالها.. ثم خرج من الدنيا وليس لمخلوق عليه مظلمة.
وتأمل موقفه في آخر حياته.. ففي مرضه الأخير وقد فزع المسلمون لاشتداد مرضه، وتجمعوا في المسجد، فتحامل على نفسه وخرج إلى المسجد، فقال لهم:
((يا أيها الناس، إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم، فمَن كنتُ جلدتُ له ظهرًا فهذا ظهري فليَستَقِدْ منه، ومَن كنتُ شتمتُ له عرضًا فهذا عرضي فليَستَقِدْ منه، ومَن كنتُ أخذتُ له مالاً، فهذا مالي فليَستَقِدْ منه ولا يقولنَّ رجلٌ: إني أخشى الشحناء من قِبَل رسولِ الله، ألا وإن الشحناءَ ليست من طبيعتي، ولا من شأني، ألا وإن أحبَّكم إليَّ مَن أخذ حقًّا إن كان، أو حللني فلقيتُ الله وأنا طيِّب النفس، ألا وإني لا أرى ذلك بمُغْنٍ عني حتى أقوم فيكم مرارًا)).
ويتساءل المتسائلون عن دلائل نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – فإن لم يكن ذلك كله هو الدليل، فما هو إذًا الدليل؟! لقد بطلت كل الدلائل في حكم العقل إن لم يكن هذا هو الدليل.