مقالات
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن خصائص النظم القراّني
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن خصائص النظم القراّني
بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
خصائص النظم القرآني [1]
أولا: استقامة وسلامة القرآن الكريم من التناقض والاختلاف:
فبرغم العدد العظيم لآيات القُرْآن الكريم التي تزيد على ستة آلاف آية، وبرغم نزوله منجَّمًا (مفرَّقًا) على ثلاث وعشرين سنة، وبرغم تنوع موضوعاته بين ذِكر قصص ومواعظ، واحتجاج وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأخلاق كريمة، وشِيم رفيعة، ومدح وذم، فإنه قد سلِم نظمُه من الاختلاف والتناقض، واستوى شكلًا وموضوعًا، فجاء على حدٍّ واحد من حسن النظم، وبديع التأليف والرصف، وعلو الوصف، لا تفاوت فيه ولا انحطاط، جاء منسجمًا ملتئمًا بين الألفاظ ومعانيها، وبين الكلمة والكلمة، وبين الجملة والجملة، وبين الفقرة والفقرة، وبين السورة والسورة، وصدق الله إذ يقول: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23]، فالقول الثاني في تفسير قوله تعالى: ﴿ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ﴾ [الزمر: 23] على ما ذكره أئمة التفسير: أنه يُصدِّق بعضُه بعضًا، ليس فيه تناقض ولا اختلاف[2]، فكان القُرْآن كما وصفه الله تعالى: ﴿ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الزمر: 28].
ثانيًا: استحالة ترجمته ترجمة حرفية:
والترجمة الحرفية اصطلاحًا أو (المساوية) أو (اللفظية): هي التي تراعى فيها محاكاة الأصل في نظمه وترتيبه؛ فهي تشبه وضع المرادف مكان مرادفه[3]، ومن هنا يستحيل ترجمة النظم القُرْآني ترجمة حرفية؛ للآتي:
أولًا: إنه ينبغي على المترجِم للنظم القُرْآني ترجمة حرفية أن يعمد إلى كل كلمة من كلمات القُرْآن فيفهمها ويستبدل بها كلمة تساويها في لغة الترجمة، مع وضعها موضعها وإحلالها محلها، بل وكل حرف من حروف النظم القُرْآني، وهذا مستحيل؛ لأنه لا يوجد في العالم أجمع لغة تساوي في حروفها حروف اللغة العربية (لغة الضاد) ولا في صيغها، ولا في اتساعها؛ يقول ابن قتيبة: (وللعرب المجازات في الكلام، ومعناها: طرق القول ومآخذه، ففيها الاستعارة، والتمثيل، والقلب، والتقديم، والتأخير، والحذف، والتكرار، والإخفاء، والإظهار، والتعريض، والإفصاح، والكناية، والإيضاح، ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الاثنين، والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص، مع أشياء كثيرة ستراها في أبواب المجاز إن شاء الله تعالى، وبكل هذه المذاهب نزل القُرْآن؛ ولذلك لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من الألسنة، كما نُقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية، وتُرجمت التوراة والزبور، وسائر كتب الله تعالى بالعربية؛ لأن العجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب، ألا ترى أنك لو أردت أن تنقل قوله تعالى: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ﴾ [الأنفال: 58] لم تستطع أن تأتيَ بهذه الألفاظ مؤدية عن المعنى الذي أودعته حتى تبسط مجموعها، وتصل مقطوعها، وتظهر مستورها، فتقول: إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد، فخفت منهم خيانة ونقضًا، فأعلِمْهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم، وآذنهم بالحرب؛ لتكونَ أنت وهم في العلم بالنقض على استواء)[4]؛ اهـ.
ثانيًا: إن هذه الترجمة الحرفية للنظم القُرْآني ستؤدي إلى خفاء المعنى المراد منه؛ بسبب اختلاف لغة الترجمة ولغة القُرْآن في طريقة استعمال الأساليب الكلامية في المعاني المرادة، واختلافهما في الضمائر المستترة والروابط التي تربط المفردات لتأليف التراكيب، فهيهات هيهات أن تظفر بتشابه بينهما؛ فاللغات تتفاوت في الوفاء بحق المعنى، يقول الرافعي: (العربية أوسع اللغات مدًى، وأغزرهن مادة، وأوفاهن بالحاجة الحقيقية من معنى اللغة؛ لكثرة أبنيتها، وتعدد صيغها، ومرونتها على الاشتقاق، وانفساحها من ذلك إلى ما يستغرق اللغات بجملتها)[5]؛ اهـ.
قلت: فأنى للضيِّق أن يستوعب الفسيح؟ وأنى للناقص أن يعبِّرَ عن الكامل؟!
ثالثًا: إن اللغات الأخرى لا تفيد ما تفيده اللغة العربية من المعاني والدلالات؛ فأي كلام عربي بليغ لا بد أن يحتوي على معانٍ أولية (أصلية) وتابعة (ثانوية)[6]، خذ على ذلك مثالًا أو أمثلة من سورة الفاتحة، وانظر إلى المعاني الثانوية التي أفادتها كلمات السورة:
أولًا: إثبات صفة الحياة للمولى سبحانه وتعالى، وهذا المعنى مستفاد من افتتاح السورة بكلمة (الحمد)؛ فالحمد لا يكون إلا للحي العاقل، كما استفدنا أيضًا من نفس الكلمة أن الله منعِم ومتفضِّل على عباده بصنوف النعم؛ لأن الحمد لا يكون إلا بعد الإحسان والإنعام، يقول الرازي: (الفرق بين الحمد والمدح من وجوه: الأول: أن المدح قد يحصل للحي ولغير الحي، ألا ترى أن من رأى لؤلؤة في غاية الحسن أو ياقوتة في غاية الحسن فإنه قد يمدحها، ويستحيل أن يحمدها، فثبت أن المدح أعم من الحمد، الوجه الثاني: أن المدح قد يكون قبل الإحسان، وقد يكون بعده، أما الحمد فإنه لا يكون إلا بعد الإحسان… الوجه الرابع: أن المدح عبارة عن القول الدال على كونه مختصًّا بنوع من أنواع الفضائل، وأما الحمد فهو القول الدال على كونه مختصًّا بفضيلة معينة، وهي فضيلة الإنعام والإحسان)[7]؛ اهـ.
ثانيًا: إن إنعامه سبحانه وتعالى وفضله واصل إلى جميع خلقه بلا استثناء، وهذا أيضًا مستفاد من كلمة (الحمد)، يقول الرازي: (وأما الفرق بين الحمد وبين الشكر فهو أن الحمد يعم ما إذا وصل ذلك الإنعام إليك أو إلى غيرك، وأما الشكر فهو مختص بالإنعام الواصل إليك)[8]؛ اهـ.
قلت: ولذا علل المولى سبحانه وتعالى عن استحقاقه لهذا الحمد بثلاثة أمور:
أولها: تربيته تعالى للعوالم كلها: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]، ثانيها: رحمته الواسعة بجميع خلقه: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 3]، ثالثها: تصرُّفه وحده بالجزاء العادل في يوم الجزاء: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4]؛ وذلك أخذًا من جريان هذه الأوصاف على لفظ الجلالة في مقام حَمْده[9].
ثالثها: استفادة أدبٍ من آداب الدعاء، ألا وهو البدء بالثناء على الله قبل ذِكر الحاجة، وهذا مستفاد من ترتيب آيات سورة الفاتحة؛ حيث بدأت الآيات بحمد الله وتمجيده والثناء عليه قبل دعائه بالهداية إلى الصراط المستقيم.
فقل لي بربك: أنى للغة من اللغات غير لغة القُرْآن ببيان تلك المعاني الثانوية لكلمات سورة واحدة من سور القُرْآن؟! ناهيك عن بقية الكلمات والسور، إذًا فيستحيل ترجمة النظم القُرْآني ترجمة حرفية.
ثالثًا: من الخصائص العامة للنظم القُرْآني أيضًا: تأثيره في النفوس، وصنيعه بالقلوب، ولفته للأنظار والانتباه:
يقول الخطابي: (فإنك لا تسمع كلامًا غير القُرْآن منظومًا ولا منثورًا إذا قرع السمع خلَص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب (الارتجاف والاضطراب) والقلق، وتغشَّاها الخوف والفرَق، تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس ومضمراتها وعقائدها الراسخة فيها؛ فكم من عدو للرسول صلى الله عليه وسلم من رجال العرب وفتَّاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله فسمعوا آيات القُرْآن فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عدواتهم موالاة، وكفرهم إيمانًا!)[10]؛ اهـ.
قلت: ولذلك تواصى المشركون بعدم سماعه واللغو فيه عند تلاوته؛ لإدراكهم أنهم لا يملِكون دفعًا للتأثر به، بل قد يأخذ منهم بالألباب، ويؤدي بهم إلى ما لا يريدون، وحتى لا يصل إلى شغاف قلوبهم؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26]، وما قصة إسلام عمر بن الخطاب[11]، وما حدث بين النبي صلى الله عليه وسلم وعتبة بن ربيعة[12]، وما كان من سماع أبي جهل وأبي سفيان والأخنس بن شريق[13]- منا ببعيد، والنصارى عند سماعهم له تفيض أعينهم من الدمع، وصدَق الله إذ يقول: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83]، والمؤمنون الذين يخشَون المولى تبارك وتعالى، وآمنوا به إيمانًا صادقًا، عند سماعهم للقُرْآن تقشعر منه جلودهم، ثم تلين معها قلوبهم إلى ذكر الله، ويزداد إيمانهم، وصدق الله إذ يقول: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]، حتى الجن لما استمعت للقُرْآن ما كان منها إلا أن قالت: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ﴾ [الجن: 1]؛ فللقُرْآن تأثير في النفوس، وتغيير في القلوب، ولفت للأنظار، وهذا من خصائص نظمه.
رابعًا: من الخصائص العامة للنظم القُرْآني أيضًا: أنه لا يُمَلُّ على كثرة التكرار، ولا يبلى على كثرة الرد: وذلك لعلو نظمه، وجودة ترتيبه وسبكه، وحسن جرسه ووقعه، وتآلف حروفه وكلماته، وحركاته وسكناته، وجمله وموضوعاته، وسلامة أسلوبه من القلق والاضطراب.
خامسًا: من الخصائص العامة للنظم القُرْآني أيضًا: المناسبة بين لفظه ومعناه، أو الملاءمة بين طبيعة المعنى وطبيعة الصوت المعبر عنه: انظر مثلًا إلى قول الحق تبارك وتعالى حكاية عن نوح عليه السلام وهو يرد على شبه قومه: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾ [هود: 28].
يقول سيد قطب: إن اللفظَ في القُرْآن قد يرسم بجرسه صورة كاملة، ومن أمثلته أنك تتلو حكاية قول نوح: ﴿ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾ [هود: 28] فتُحس أن كلمة: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} [هود: 28] تصوِّر جوَّ الإكراه بإدماج كل هذه الضمائر في النطق، وشد بعضها إلى بعض، كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون، ويشدون إليه وهم منه نافرون! وهكذا يبدو لون من التناسق أعلى من البلاغة الظاهرية، وأرفع من الفصاحة اللفظية، اللتين يحسبهما بعض الباحثين في القُرْآن قديمًا وحديثًا أعظم مزايا القُرْآن! وتسمع كلمة: (يصطرخون) في الآية: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ [فاطر: 36، 37]، فيخيل إليك جرسها الغليظ غلظ الصراخ المختلط المتجاوب من كل مكان، المنبعث من حناجر مكتظة بالأصوات الخشنة؛ كما تلقي إليك ظل الإهمال لهذا الاصطراخ الذي لا يجد من يهتم به أو يلبيه، وتلمح من وراء ذلك كله صورة ذلك العذاب الغليظ الذي هم فيه يصطرخون، وحين يستقل لفظ واحد بهذه الصورة كلها يكون ذلك فنًّا من التناسق الرفيع؛ اهـ[14].
قلت: سوف يزداد – إن شاء الله تعالى – هذا العنصر وضوحًا في المطلب الثاني من فصلنا هذا.
سادسًا: مِن الخصائص العامة للنظم القُرْآني أيضًا: أنك تحسب ألفاظه هي التي تنقاد لمعانيه ثم تتعرف ذلك وتتغلغل فيه فتنتهي إلى أن معانيه منقادة لألفاظه، ثم تحسب العكس وتتعرفه متثبتًا فتصير منه إلى عكس ما حسبت، فلا تزال مترددًا إلى أن ترد إعجازه إلى الله[15].
سابعًا: من الخصائص العامة للنظم القُرْآني أيضًا: أنه معجز بلفظه؛كما تقدم في التعليق على تعريفات المفسرين للنظم؛ ولذا استحال تحريفه وتبديله.
ثامنًا: من الخصائص العامة للنظم القُرْآني أيضًا: سهولة حفظه في الصدور، كما حفظ في السطور.
وهذه خاصية من خصائص القُرْآن والأمة الإسلامية، فلم توفق أمة لحفظ كتابها في صدورها كما وُفِّقَت أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17، 22، 32، 40]، قال البغوي: (“ولقد يسرنا”: سهَّلنا، “القُرْآن للذكر” ليتذكر ويعتبر به، وقال سعيد بن جبيرٍ: يسرناه للحفظ والقراءة، وليس شيء من كتب الله يقرأ كله ظاهرًا إلا القُرْآن، “فهل من مدكرٍ”، متعظٍ بمواعظه[16]؛ اهـ.
وعن عياض بن حمار المجاشعي[17]: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: ((ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا… وقال: إنما بعثتُك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظان))[18]؛ فقوله تعالى: (لا يغسله الماء) معناه: محفوظ في الصدور، لا يتطرق إليه الذهاب، بل يبقى على مر الأزمان، وأما قوله تعالى: (تقرؤه نائمًا ويقظان) فقال العلماء: معناه يكون محفوظًا لك في حالتَيِ النوم واليقظة، وقيل: تقرؤه في يُسرٍ وسهولةٍ[19].
تاسعًا: مِن الخصائص العامة للنظم القُرْآني أيضًا: أن الله جل جلاله هو الذي تولى حفظه بنفسه، ولم يوكل ذلك لأحد من خلقه كما أوكل حفظ الكتب السماوية السابقة لمن نزلت عليهم، ولا عجب في ذلك؛ فالقُرْآن هو كتاب الله الخالد، الباقي ما بقي إنسان على ظهر الأرض؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
فعلى الأرجح والأكثر مِن أقوال المفسرين: أن الضمير في (له) عائد على القُرْآن الكريم، والمعنى: إنا للقُرْآن حافظون من أن يُبدَّل ويُغيَّر كما جرى في سائر الكتب المنزلة[20].
قلت: هذا الحفظُ إما باختزانه في صدور الرجال وسهولة حفظه، وإما بلفظه المعجز كما تقدم، واستحالة تحريفه وتبديله، أو بحفظه من أن تقربه الشياطين، وصدق الله حينما قال: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾[فصلت: 42].
عاشرًا: أيضًا من الخصائص العامة للنظم القُرْآني أن الله عز وجل أنزله مفرَّقًا ومنجَّمًا: بحسب الوقائع، والدواعي، والأحداث، في ثلاث وعشرين سنة، خلاف الكتب السماوية السابقة التي أنزلت جملة واحدة؛ قال تعالى: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106].
قال ابن الجوزي: (قوله تعالى: (وقُرْآنًا فرقناه) قرأ علي، وسعد بن أبي وقاص، وأبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والأعرج، وأبو رجاء، وابن محيصن: ﴿ فَرَّقْنَاهُ ﴾ بالتشديد، وقرأ الجمهور بالتخفيف، فأما قراءة التخفيف، ففي معناها ثلاثة أقوال: (أحدها): بينا حلاله وحرامه، رواه الضحاك عن ابن عباس، و(الثاني): فرقنا فيه بين الحق والباطل، قاله الحسن، و(الثالث): أحكمناه، وفصلناه؛ كقوله تعالى: ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 4]، قاله الفراء، وأما المشددة، فمعناها: أنه أنزل متفرقًا، ولم ينزل جملة واحدة)[21]؛ اهـ.
قلت: قراءة التشديد قراءة شاذة[22].
وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان: 32]، قال ابن الجوزي: (قوله تعالى: ﴿ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾ [الفرقان: 32]؛ أي: كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور، فقال الله عز وجل: (كذلك)؛ أي: أنزلناه كذلك متفرقًا؛ لأن معنى ما قالوا: لمَ نُزِّل عليه متفرقًا؟)[23]؛ اهـ.
قلت: الحكمة في إنزاله منجمًا ومفرقًا – إجمالًا – ما يلي:
أولًا: تقوية وتثبيت قلبه صلى الله عليه وسلم على تحمل مشاق الدعوة، وتكاليفها؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان: 32]، فتجدُّد الوحي فيه تجدد للعهد والعناية بالمرسل إليه، كذلك فيه تجدد للفرح والسرور.
ثانيًا: تيسيرًا لحِفظه وتعلمه، وبهذا فسر قوله تعالى: ﴿ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [الفرقان: 32][24].
قلت: هذا التيسير للحفظ والتعلم ليس للرسول وحده فقط، وإنما له ولأفراد الصحابة، وإرشادًا للأمة من بعدهم كيف تحفظ وتتعلم كتاب ربها، ويستدل على ذلك أيضًا بقوله تعالى: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106]، قال البيضاوي: (لتقرأه على الناس على مكثٍ: على مَهَل وتُؤَدة؛ فإنه أيسر للحفظ، وأعون في الفهم)[25]؛ اهـ.
ثالثًا: لأن منه ناسخًا ومنسوخًا، وهذا لا يتأتى إلا إذا كان منجمًا ومفرقًا[26].
رابعًا: مسايرة للحوادث والطوارئ في تجددها وتفرقها، فكلما جد منها جديد نزل من القُرْآن ما يناسبه؛ فمنه ما هو جواب لسؤال، وما هو إنكار على قول قيل، أو فعلٍ فُعل، فكان لا بد أن ينزل منجمًا ومفرقًا بجواب كلام العباد، وأفعالهم، وبهذا فسر قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ [الفرقان: 33][27].
خامسًا: التدرج في تربية هذه الأمة الناشئة علمًا وعملًا، بإنزال التشريعات والفرائض على مراحل.
سادسًا: الدلالة على إعجاز القُرْآن، وأنه من عند الله وحده، ولا يمكن أن يكون كلام مخلوق، يقول الزرقاني: (القُرْآن الكريم تقرؤه من أوله إلى آخره فإذا هو محكم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب، قوي الاتصال، آخذ بعضه برقاب بعض، في سُوَره وآياته وجُمله، يجري دم الإعجاز فيه كله من ألفه إلى يائه كأنه سبيكة واحدة، ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك ولا تخاذل، كأنه حلقة مفرغة… وعِقد فريد، يأخذ بالأبصار، نظمت حروفه وكلماته ونسقت جمله وآياته، وجاء آخره مساوقًا لأوله، وبدا أوله مواتيًا لآخره، وهنا نتساءل: كيف اتسق للقُرْآن هذا التأليف المعجِز؟ وكيف استقام له هذا التناسق المدهش؟ على حين أنه لم يتنزل جملة واحدة، بل تنزل آحادًا مفرقة تفرق الوقائع والحوادث في أكثر من عشرين عامًا.
الجواب: أننا نلمح هنا سرًّا جديدًا من أسرار الإعجاز، ونشهد سمة فذة من سمات الربوبية، ونقرأ دليلًا ساطعًا على مصدر القُرْآن، وأنه كلام الواحد الديَّان، ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82][28]؛ اهـ.
والله أعلم.
________________________________________
[1] تسري على جميع النظم القرآني بحروفه، وكلماته، وجُمَله، وآياته، وسوره، وموضوعاته.
[2] انظر على سبيل المثال: “تفسير البغوي = معالم التنزيل في تفسير القرآن” للبغوي ت (510هـ)، تحقيق وتخريج: محمد عبدالله النمر، عثمان جمعة ضميرية، سليمان مسلم الحرش، نشر: دار طيبة للنشر والتوزيع السعودية، الطبعة: الرابعة (1417هـ = 1997 م)، (7/ 115)، تفسير الكشاف (5/ 300)، “تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز” لابن عطية الأندلسي ت (542هـ)، تحقيق: عبدالسلام عبدالشافي محمد، نشر: دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة: الأولى (1422هـ = 2001م)، (4/ 527)، “تفسير ابن الجوزي = زاد المسير في علم التفسير” لابن الجوزي ت (597هـ)، تحقيق: عبدالرزاق المهدي، نشر: دار الكتاب العربي بيروت، الطبعة: الأولى (1422هـ)، (4/ 14).
[3] ” مناهل العرفان ” (2/ 9).
[4] ” تأويل مشكل القرآن” (ص: 21، 20) وانظر: ما كتبه تحت (باب: ذكر العرب وما خصهم ..)، (ص: 10 – 23).
[5] “تاريخ آداب العرب” لمصطفى صادق الرافعي ت (1356هـ)، مكتبة الإيمان المنصورة، الطبعة: الأولى (1997م)، (1/ 145).
[6] سُمِّي”أوليًّا”؛ لأنه أول ما يفهم من الكلام، وسمي “أصليًّا”؛ لأنه ثابت ثبات الأصول لا يختلف باختلاف المتكلمين ولا المخاطبين، أما (الثانوي) وهو ما يستفاد من الكلام زائدًا على معناه الأصلي، وسمي “ثانويًّا”؛ لأنه يفهم متأخرًا عن المعنى الأصلي، وسمي “تابعًا”؛ لأنه أشبه بقيد في المعنى الأصلي، والقيد تابع للمقيد، أو أنه يتغير بتغير التوابع. انظر: مناهل العرفان (2/ 21، 22) .
[7] “مفاتيح الغيب” (1/ 190).
[8] السابق (1/ 191).
[9] انظر: مناهل العرفان (2/ 27).
[10] “بيان إعجاز القرآن” للخطابي (ص: 70)، وعدَّه أحد وجوه إعجاز القرآن.
[11] انظر: “السيرة النبوية” لابن إسحاق ت (151هـ)، تحقيق: سهيل زكار، نشر: دار الفكر بيروت، الطبعة: الأولى (1398هـ = 1978م)، (ص: 181 – 185)، “السيرة النبوية” لابن هشام ت (213هـ)، تحقيق: مصطفى السقا وآخرين، نشر: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي القاهرة، الطبعة: الثانية (1375هـ = 1955م)، (1/ 343 – 347)، “السيرة النبوية” لابن كثير ت (774هـ)، تحقيق: مصطفى عبدالواحد، نشر: دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت (1395هـ = 1976م)، (2/ 32 – 36).
[12] انظر: “السيرة النبوية” لابن إسحاق، (ص: 208، 207)، “السيرة النبوية ” لابن هشام، (1/ 294، 293)، “السيرة النبوية” لابن كثير (1/ 503 – 505).
[13] انظر: “السيرة النبوية” لابن إسحاق، (ص: 189، 190)، “السيرة النبوية” لابن هشام، (1/ 315، 316)، “السيرة النبوية” لابن كثير، (1/ 505، 506).
[14] “التصوير الفني في القرآن الكريم” سيد قطب، نشر: دار الشروق مصر، الطبعة: السابعة عشرة، (ص: 93، 92) وفيه أمثلة متعددة لذلك.
[15] “إعجاز القرآن والبلاغية النبوية” لمصطفى صادق الرافعي ت (1356هـ)، نشر: المكتبة التجارية الكبرى مصر، الطبعة: الثامنة (1389هـ = 1969م)، (ص: 47).
[16] “تفسير البغوي” (7/ 429).
[17] عياض بن حمار المجاشعي التميمي: من متقشفة الصحابة، من بني مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظله بن مالك بن زيد مناة بن تميم، له صحبةٌ، وهو عياض بن حمار بن أبي حمار بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع.. عداده في أهل البصرة، توفي مابين ( ا5 هـ – 60 هـ). انظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال” (4/ 2164)، “تاريخ الإسلام” (2/ 529).
[18] “صحيح مسلم” كتاب/ الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب/ الصفات التي يعرف بها في الدنيا…، برقم (2865).
[19] انظر: “شرح النووي على مسلم” في هذا الحديث.
[20] انظر: “جامع البيان في تأويل القرآن” لابن جرير الطبري ت (310هـ)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، ومحمود محمد شاكر، نشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى (1420هـ =2000م)، (17/ 69، 68)، “تفسير البغوي” (4/ 370، 369)، “المحرر الوجيز” (3/ 352، 351)، “الكشاف” (5/ 659، 658)، “زاد المسير” (2/ 225).
[21] “زاد المسير” (3/ 58).
[22] انظر: “المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها” لأبي الفتح عثمان بن جني الموصلي ت (392هـ)، تحقيق وتعليق: علي النجدي ناصف وآخرين، نشر: وزارة الأوقاف المصرية، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، الطبعة: الأولى (1420هـ = 1999م)، (2/ 23).
[23] “زاد المسير” (3/ 320).
[24] انظر: “البرهان” (1/ 232، 231)، “الإتقان” (1/ 152).
[25] “أنوار التنزيل” (3/ 269).
[26] انظر: “البرهان” (1/ 232، 231)، “الإتقان” (1/ 152).
[27] انظر : “زاد المسير” (3/ 320)، “البرهان” (1/ 231)، “الإتقان” (1/ 152).
[28] “مناهل العرفان” (1/ 61، 60).
ة