مقالات

تأملات في الأمراض المناعية الذاتية

ريم ماهر تكتب…

في زمنٍ صار فيه الجسدُ مجرّد آلةٍ يُطالَب بالتحمّل، يُنسى أن له صوتًا… وأنينه.
تأتينا الأمراض المناعية الذاتية، لا كأعراضٍ طبية فقط، بل كأسئلة وجودية، كمرآة تكشف هشاشة العلاقة بيننا وبين أجسادنا.
حين يُهاجم الجسد ذاته، لا يكون الألم وحده هو الخبر، بل ما يُرافقه من دهشة، من خوف، من محاولة لفهم ما لا يُقال.

دعونا نأخذ، رحلةٍ داخلية، حيث يتحوّل المرض إلى لغة، والتحليل إلى تأمّل، والطبيب إلى مستمعٍ لصوتٍ خافتٍ طال كتمانه.
إنه نصّ لا يُقرأ بعين الطب فقط، بل بقلب الإنسان الذي يُحاول أن يُصالح ذاته، أن يُرمّم العلاقة مع جسده، أن يسمع ما حاول الجسد أن يقوله منذ زمن طويل.

لماذا يهاجمني جسدي؟
سؤال لا يُطرَح من سطح الألم، بل من قاعه.
كأن الجسد – هذا الرفيق الصامت – قرر فجأة أن ينتقم، أن يُعلن الحرب بلا إنذار، أن يضعك أمام مرآة لا تعكس سوى دخان المعارك داخلك.

هل يمكن للذات أن تنقسم على نفسها؟
هل يمكن للمدافع أن يغدو مهاجمًا؟
هل نحن أمام خلل بيولوجي… أم تمزق وجودي؟

(ملاحظة: الأمراض المناعية الذاتية، مثل “هاشيموتو” و”الروماتويد”، تحدث عندما يهاجم جهاز المناعة خلايا الجسم، فيخطئ التعرف على “الذات” ويبدأ في مهاجمته. هذه حالة من “الخلل في التعرف على الهوية” داخل الجسد، وهي ليست مجرد حالة طبية، بل انعكاس للصراع الداخلي بين الأجزاء المختلفة للذات.)

(حين يعمى الجندي)
جهاز المناعة ليس فقط جيشًا.
إنه ذاكرة الجسد، حارسه الأمين، حارس “الهوية الخلوية” إن صح التعبير.
لكنه حين يخطئ الهدف، لا يصيب فقط الأنسجة، بل يفتح سؤالًا عن المعنى.
يضرب الغدة، فيتهاوى الاتزان…
يضرب المفصل، فيتكسر الحضور…
يضرب الجلد، الشعر، الأعصاب، الأمعاء… كأن ما كان “أنا” يصير فجأة “الآخر”.

إنه ليس مرضًا فقط، بل استعارة عن الإنسان حين يتيه، فيصير عدو نفسه.

(العصر الذي يلتهب من الداخل)
نعيش زمنًا يتوهّم الصحة، لكنه مريض بلا أعراض.
أطعمة بلا حياة، ضوء بلا شمس، نوم بلا راحة، تواصل بلا دفء.
عصر يُرهق الأمعاء، ويشوّش المناعة، ثم يتساءل: ما بال هذا الجسم ينهار؟
نحن لا نأكل، نحن نستهلك.
لا نعيش، بل نركض.
نخاف من الفيروسات، لكننا لا نحصّن أرواحنا.
والأمعاء – هذا المخ الثاني – تُستنزف، تتشقّق، تتسرب.
والمناعة تُصاب بالارتباك، فتصير طائشة، شكاكة، تشبه إنسانًا لم يعد يثق بشيء.

(ملاحظة: الحياة الحديثة قد تترك الجسد في حالة “ارتباك”، إذ غالبًا ما تكون أغلب اختياراتنا غير صحية. المأكولات الصناعية، التوتر المزمن، والضغط المستمر على الجسم يؤديان إلى إضعاف المناعة ويخلقون بيئة خصبة لظهور الأمراض المناعية.)

(كل مرض هو قصة مكتومة)
الهاشيموتو ليست حالة طبية، بل رواية عن احتراق داخلي مزمن.
الروماتويد ليس فقط آلامًا، بل لغة ألم لم تجد من يفهمها.
التصلب، الذئبة، الثعلبة، الصدفية… كل واحد منها خطاب من الجسد:
“أنا هنا… أصيح منذ سنوات، فهل تسمع؟”

(ما لا يُقاس بالتحاليل المعتادة)
التحاليل ليست أرقامًا. إنها رسائل.
CRP، ANA، Calprotectin… ليست حروفًا باردة، بل إشارات من الداخل.
حتى نقص فيتامين دال أو ب12 قد لا يكون مجرد نقص، بل انعكاسًا لعزلة، لشتاء نفسي طويل.
التحليل الحقيقي ليس في المختبر فقط، بل في قراءة السياق: نمط الحياة، الألم المزمن، الصراخ الصامت.

(العلاج كعودة إلى الأصل)
العلاج ليس كبتًا، بل تصالح.
ليس قمعًا لجهاز المناعة، بل دعوته للسلام.
أن نغلق أبواب النار: سكر، جلوتين، توتر.
وأن نفتح نوافذ النور: نوم، أكل حي، علاقات صادقة، تأمل، قرآن.

أن نغذّي الأمعاء لا بالمضادات، بل بالمرق، بالبكتيريا الصديقة، بالحب.
أن نُسكِت الالتهاب… لا فقط بالكركم والأوميغا، بل بالسكينة.

(الطبيب الذي يصغي لما لا يُقال)
الطبيب هنا ليس كاتب وصفات، بل قارئ أرواح.
يدخل على المريض لا ليُطفئ العرض، بل ليقرأ النص الكامل.
يعرف أن كل طعام محذوف أو مضاف يحمل أثرًا نفسيًا، وسؤالًا داخليًا.

في كل مرض مناعي، يُصبح أخصائي التغذية شريكًا في الرحلة:
في هاشيموتو: يرمّم ما انهار من الداخل.
في الروماتويد: يُطفئ نارًا عمرها سنوات.
في التصلب: ينفخ الروح في الأعصاب المتعبة.
في الثعلبة: يعيد الشعر من الداخل، لا من الكريم.
في الذئبة: لا يقمع المناعة، بل يُنصت لرسائلها.

حين يطلب الجسد حضنًا لا دواء…. نعم، هناك من عاد.
من تصالح مع جسده، من استبدل الكورتيزون بالإيمان، والمثبطات بالتأمل، واليأس بالفهم.

فالمرض المناعي ليس خيانة، بل نداء: “أعد لي ثقتي بك، وسأتوقف عن قصفك.”

وربما لم يكن المرض عدوًا يومًا، بل مرشدًا متنكرًا.
يقول لك: “كلما أبعدتني، اقتربت منّي بطريقة خاطئة. كلما أنكرتني، صرختُ بألمك.”

فهل تعود؟
هل تسمع؟
هل تفتح ذراعيك لجسدك كما لو كان طفلًا خائفًا؟

حين تفعل، سيخبرك الألم سرًا لم تسمعه من قبل:
“أنا كنت أحاول أن أنقذك من نفسك.”

وربما لا يكون الشفاء اختفاءً للأعراض، بل ولادة جديدة لفهم الذات.
حين نكفّ عن التعامل مع الجسد كعدو، ونراه كرفيقٍ أرهقته الإشارات المهدورة، تبدأ رحلة العودة.
ليست المعركة مع المرض، بل مع الغفلة.
حين نُصغي للهمس قبل أن يصير صراخًا، ونلمس الألم كرسالة لا كعقوبة، يصبح الجسد صديقًا لا خصمًا.
فما المرض سوى لغة… والشفاء، ترجمة صادقة لها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى