شخصية العمر… بقلم أحمد المغربي
بقلم الكاتب : أحمد المغربي
أكتب تلك الكلمات ليلة الجمعة 16/11/2023 في تمام الساعة التاسعة مساءً لصديق عمري أ/ يسري عبدالجابر عابد رحمه الله، وهي أول ليلة لك في قبرك، وقلت في نفسي لعلني آنس وحشتك وأشهد لك بما رأيت من طيب خصالك طوال صحبة دامت قرابة ال 20 عامًا وليكون ذلك شفيعًا لك عند الله، أكتب ويداي ترتعش لا تقوى على رثائك وقلبي منفطر لا يتحمل فقدك ومداد قلمي تلك الدموع التي لا تنقطع حزنًا عليك، ولكن قلْ لي بالله عليك: كيف سأرثيك وأنتَ مني وأنا منك؟ أيعقل أن يرثي المرء نفسه؟
ولنفترض أنه يجوز قلْ لي: ما الكلمات التي يمكنها أن تصف رجلاً شهمًا عظيمًا، وإنسانًا خلوقًا ضاحك الوجه بشوشًا، وامرؤً سهلاً ليِّنًا قريب من الناس جميعا، وأخًا عزيزًا شريفًا وصديقًا نبيلاً وفيًا وزميلاً ناصحًا أمينًا وجليسًا كريمًا؟ من هو الكاتب الذي باستطاعته أن يصف صاحبًا لا يغدر وحليمًا لا يجهل وودودًا لا يقطع وعفيف القلب والجوارح واللسان لا يخون؟
فعذرًا يا صاحبي فقد عجزت كلمات اللغة جميعها أن تفيك حقك، ثم قلْ لي: لِمَ رحلت سريعًا ودون سابق إنذار وتركتنا نتلوَّى من الوجع على فراقك؟ أسمعك تقول ذهبت لوعد ربي الذي بشَّر الصابرين بجنات ونعيم، وماذا علينا نحن أهل الدنيا كيف نتحمل فقدك؟ ومن سيعوِّض أفراخك الصغار عن هذا البحر من العطف والحنان والدلال الذي جفَّ بموتك وتلك الأبوة التي ما رأيت مثلها قط؟
ثم قلْ لي: ماذا سأقول لصغيرتي أبرار التي تنتظرك كل صباح لتلاطفها وتطبع على جبينها قبلة عندما تأتيني لنذهب معًا إلى المدرسة وهي لا تفهم معنى الموت ولا تزال تظن أنك ستأتي كل يوم كعادتك؟ وأنا كيف سأذهب إلى المدرسة وقد غابت شمسها للأبد؟
وكيف سأبقى حبيس تلك الجدران وقد ذهب منها بلا رجعة الوجه البشوش والبسمة الصافية والضحكة الحلوة والكلمة الطيبة والنفس الرضيِّة السمحة، ورحل عنها بلا عودة المربي الفاضل والمعلم الأمين والزميل المخلص والصديق الوفيّ، قلْ بالله عليك: كيف سيتحمل طلابك انقطاعك عنهم وقد كنت لهم الأب والأخ والمعلم والقدوة، أمَّا زملاؤك فكانوا لا يطيقون غيابك يوم فكيف يكون حالهم وقد رحلت عنهم للأبد؟ ورفقاؤك في المسجد وأماكن سجودك في كل صلاة كم سيفتقدونك ويبكون عليك، وكيف سأخبر أحرار العالم أنهم فقدوا خيِّرًا من أخيارهم ورجلاً وطنيًا حرًا من أشرافهم الذي طالما نَاصر الحق وحمل على عاتقه هموم قضايا الوطن والأمَّة،
وقلْ لي: كيف سيكون حال أهل غزة عندما أقول لهم أن الرجل الذي لم تغمض عينه ولم يرقد جفنه ولم يتوقف تضرعه ودعاؤه لكم ليلة اجتياح قوات الاحتلال مدينتكم الباسلة قد مات؟ ثم كيف ستفهم حجرات بيتك أنك لن تسكنها أبدًا بعدما بنيتها طوبةً طوبة بجهدك وعرقك على مدار سنين؟ بلا مبالغة يا صديقي ستبقى كل الطرق التي أزهرتها وكل الأماكن التي مررت بها وكل الأشخاص الذين تعاملت معهم والتقيت بهم يفتقدونك للأبد ولن يسد فراغك أحد، ولولا أنَّ الموت حقٌ وقد مات خير الخلق المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه وصحابته الكرام لقلت لعزرائيل ملك الموت كيف فعلتها؟
أمثل هؤلاء الأخيار تقبض أرواحهم أيضًا! ولكن عزائي فيك إنك قد ذهبت إلى ربٍ عادلٍ كريم وأحتسبك شهيدًا، فارقد بسلام يا صاحبي فقد شهد لك القريب والبعيد والعدو والحبيب والطير والشجر والحجر بالاستقامة وحسن الخلق، وقد شيَّع جنازتك الالآف وجميعهم كانوا يدعون لك، وقد غسَّلتك بيديَّ هاتين ورأيت ابتسامتك المشرقة تعلو وجهك الكريم وكأن ملائكة الرحمة تحوطك من كل مكان وتبشِّرك بأعلى الجنان .