مقالات
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن صفات الداعية الناجح فى شخصية الإمام أبى حنيفة النعمان
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن صفات الداعية الناجح فى شخصية الإمام أبى حنيفة النعمان
بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه ان من يتصفح ما كتب عن صفات الإمام أبي حنيفة النعمان في هيئته وسلوكه وعلمه وذكائه ونشاطه وإخلاصه وورعه وكرمه وعزة نفسه وإبائه الضيمَ.. وغير ذلك، ثم يقرأ ما سطره العلماء بعده عن صفات الداعية وثقافته التي تؤهله للقيام بمهمة الرسل وخلفائهم – لا بد له أن يعترف بأن لهذا الإمام الريادة في الاتصاف بكل ما ذكروه، وبأكثر مما ذكروه.
فالداعية إلى الإسلام هو العامل الأهم والعصب الحي في منظومة الدعوة، بل هو العمود الفقري في مجال التربية، هو الذي ينفخ فيها الروح، ويجري في عروقها الدماء، فكيف يقضي على الجهل وهو غير ضليع في العلم؟ وكيف يقاوم الهوى والفساد والضلال وهو لم يتسلَّحْ بالإيمان والأخلاق؟!
إن فاقد الشيء لا يعطيه، كما هو مقرر في العقل والفطرة.
ومن هنا كان على الداعية للإسلام أن يفقه الإسلام الذي يدعو إليه، وأن يعرفه معرفة يقينية عميقة من مصادره الأصلية وينابيعه الصافية؛ حتى يكون على بينة مما يدعو إليه، وعلى بصيرة من منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة إليه: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].
ومع هذه المعرفة لا بد له من تشرب هذه المعرفة؛ حتى تختلط بمشاعره وعواطفه، بحيث يتبنى الفكرة ويعيش لها وبها، فتصير له هدفًا وغاية، يحمل همها، ويجهد نفسه في اكتشاف أفضل الوسائل لتبليغها، مع ضرورة أن يكون هو صورة عملية لما يدعو إليه؛ فقد سُئلت عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: “كان خلقه القرآن”، فمن ينوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ دعوته لا بد أن يكون قرآنًا يمشي على الأرض؛ فالقدوة العملية أقوى تأثيرًا من كثرة الكلام، كما أن الكلام لا بد أن يكون محكمًا يتسم بالإخلاص والصدق، وعن ذلك يقول الإمام أبو حنيفة: “إن الكلام كثير، ومحكمه يسير، وإن الكلام لا ينتهي حتى ينتهى عنه، وإن خير الكلام ما أريد به وجه الله”، وينصح أحد تلاميذه بقوله: “لا تحدِّث بفقهك من لا يشتهيه، ومن ناقشك من العامة والسوقة، فلا تناقشه؛ فإنه يذهب ماء وجهك”.
أما عما ينبغي أن يتحلى به الداعية والمعلم من الصفات الظاهرة التي لها تأثير ضخم على المستمعين، فقد أجمعت المصادر على أنه كان طويل الصمت، حسن الإلقاء، سلس اللفظ، متدفق العبارة، جهير الصوت، يصدع برأيه حيث تعترك الآراء، وحينئذ يسيل كالسيل إذا اجتاح جنبات الوادي، مفتاح شخصية التيسير والتسامح، حسن الوجه، حسن اللحية، حسن الهيئة والثياب، حسن النعل، حسن السمت، شديد الكرم، كثير التعطر، يعرف بريح المسك.
وأما حِلمه وذكاؤه وسرعة بديهته، فحدث عن ذلك ولا حرج، وهذا مثال لضبط النفس عند الاستفزاز، وما أكثر ما استفزه الحاقدون!جاءه أحد هؤلاء وهو في مجلسه وحلقته فقال له: يا مبتدع، يا زنديق، فقال له: غفر الله لك، الله يعلم مني خلاف ذلك، وإني ما عدلت به أحدًا مذ عرفته، وعرضت له يومًا مسألة كان للحسن البصري فيها رأي، فخطأه، فقال له أحد المتعصبين: أنت تقول: أخطأ الحسن يا بن الزانية؟ فما تغير وجهه ولا تلون، ثم قال: والله أخطأ الحسن وأصاب ابن مسعود.
كان الإمام هيوبًا مهابًا، لا يتكلم إلا جوابًا، ولا يخوض فيما لا يعنيه، ولا يهتم بما يقوله عنه المتزمتون؛ فقد كثرت الألسنة في قدحه، ومعظم من ذموه لم تصل مداركهم إلى أُفقه؛ ولذلك لم يأبه بمناقشتهم، أو الرد عليهم، واثقًا أن الحقيقة ستظهر يومًا ما.
﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ﴾ [الرعد: 17].
.. وكان ما توقَّعه، فبقيت أصوات الثناء تتجاوب في الأجيال تعطر سيرته.
وكان مع ذلك متواضعًا، لا يدعي احتكار الصواب، بل كان يقول كثيرًا: عِلمنا هذا رأي، فمن جاءنا بأحسن منه قبلناه، كما كان يقول: “رأينا هذا أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا، فهو أولى بالصواب”، ومن هذا الخلق كان ينطلق بحثًا عن الحقيقة، يناقشه أبو يوسف في مسألة واحدة بعد العِشاء، فما زالا يتجاريان ويتقاربان حتى طلع الفجر، يقول عنه تلميذه أبو يوسف: كان إذا سئل عن مسألة كان له علم بها، أجاب، وكان لا يذكر الناس إلا بخير، ومن تواضعه أنه يقول:
خلَتِ الديارُ فسُدْت غيرَ مسوَّدِ ومن الشقاء تفرُّدي بالسُّودَدِ
كان دائم النصيحة لتلاميذه الذين يرى فيهم نجابة ليخلفوه، ونصائحه في ذلك درة في جبين الحكمة، نصح مرة قاضي مرو فقال: إذا أشكل عليك شيء من ذلك، فارحل إلى الكتاب والسنة والإجماع، فإن وجدت ذلك ظاهرًا، فاعمل به، فإن لم تجده ظاهرًا، فردَّه إلى النظائر، واستشهد عليه بالأصول، ثم اعمل بما كان إلى الأصول أقرب، وبها أشبه.
ومن كلماته: “كل شيء تكلم به، فعلى الرأس والعين، قد آمنا به، وشهدنا بأنه كذلك، ونشهد بأنه لم يأمر بشيء يخالف أمر الله، ولم يقل غير ما قاله الله، وما كان من المتكلفين؛ ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء: 80].
وفي هذا ردٌّ مفحِم على كل من اتهمه بأنه يقدم الرأي على النص، وهكذا ينبغي أن يكون سبيل الدعاة.
كان سريع البديهة، مفحِمًا في حواره، مدافعًا عن آرائه: دخل عليه الخوارج بسيوفهم يحتسبون الأجر عند الله بإغمادها في رقبته، فقالوا: جنازتان بالباب إحداهما لرجل شرب الخمر فمات سكران، والأخرى لامرأة حملت من الزنا فماتت في ولادتها قبل التوبة، أهما مؤمنان أم كافران؟ فسألهم: من أي فـرقة كانا؟ أمن اليهود؟ قالوا: لا، قال: أمن النصارى؟ قالوا: لا، قال: أمن المجوس؟ قالوا: لا، قال: فممن كانا؟ قالوا: من المسلمين، قال: قد أجبتم، قالوا: أهما في الجنة أم في النار؟ قال: أقول فيهما ما قاله الخليل: ﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 36]، وأقول كما قال عيسى: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118] فنكسوا الرؤوس وانصرفوا.
كان في وجهه أثر السجود، يقوم الليل ويحييه، يتزين للصلاة ولو كان وحده؛ فالله أحق أن يتزين له، قيل: إنه ختم القرآن سبعة آلاف مرة، وكان يتم في رمضان ستين ختمة: ختمة في بياض النهار، وختمة في سواد الليل، وكان يصلي العشاء والفجر بوضوء واحد أربعين عامًا، وهذا مع ما فيه من المبالغة يدل على عبادة الرجل، وتنسُّكه، وكثرة تلاوته للقرآن، وحرصه على قيام الليل، وهذا هو الزاد الضروري لكل الدعاة؛ فقد كان سيد الدعاة محمد صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل حتى تتورم قدماه، وطالبه ربه مرارًا بذلك فقال: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]، وقال له: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 1 – 4]، وعلل ذلك بقوله: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ [المزمل: 5]، وبعد أن شهد الله له في قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ﴾ [المزمل: 20]، نزلت عليه سورة المدثر تقول له: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾ [المدثر: 1 – 3]، وكأن القرآن يشير بذلك إلى أن الدعوة لا بد أن يسبقها تهيئة للداعية بقيام الليل والتهجد بالقرآن.
كان يتكسب من عمله في التجارة، ولم يقبل على تدريسه ودعوته أجرًا، وهذا هو طبع الأنبياء والرسل؛ حيث كانوا جميعًا يرددون: ﴿ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 109]، فقد كان يبيع الحرير الخالص والمخلوط بالصوف، وساعده ذلك على تجنبه السعي إلى الأمراء والأغنياء، بل إنه كان من أكبر تجار الكوفة في دار ابن حريث، وكان يتصدق من ربحه على الفقراء وطلبة العلم، وهذا ملمح دعوي رائع؛ فالإنفاق على طلاب العلم يساعد على التعمق فيه، وتشجيعهم على الاستمرار، والصبر على مشقته، وله مع ذلك أجر الصدقة الجارية، والعلم الذي ينتفع به مع تواصل الأجيال في أداء تلك المهمة لنشر دين الله في الآفاق، ولم يكن أبو حنيفة في ذلك بدعًا؛ فمعظم الأئمة والعلماء كانوا يحترفون ما يغنيهم عن التكسُّب بالدعوة، بل نسب كثير منهم إلى حرفته؛ فهذا الإمام الخصاف كان يعيش على خصف النعال، ويؤلف للمهتدي بالله كتاب الخراج، والقفال كان صانع الأقفال، والجصاص يعمل بالجص، والصفار كان يبيع الأواني النحاسية، والإمام حمزة بن حبيب الزيات كان يحمل الزيت على كتفه من حلوان – مدينة بالعراق – إلى الكوفة.
لم يمنعه ولاؤه لبني تيم من أن يتصدر للفتيا وللتعليم، وأن يتبوأ تلك المكانة العالية في تاريخ الأمة، فما كان للعرب فضل بعروبتهم فقط، ولكن الفضل كل الفضـل في القيام بخدمة هذا الدين، ونشره، والإخلاص في ذلك، ولقد قال عمر: “لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًّا، لوليتُه مكاني”، وكان ينادي على أسامة بن زيد كلما لقيه: السلام عليك أيها الأمير، ويقول: إني لا أدعوك إلا به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات وأنت عليَّ أمير، وهذا عكرمة مولى عبدالله بن عباس ظل رقيقًا إلى أن مات سيده، فأعتقه ابنه علي، والإمام نافع كان مولًى لابن عمر، وابن سيرين كان مولى لأنس بن مالك، وغيرهم كثير.
كان مثلًا رائعًا للورع والبُعد عن الشبهات، وقد تواترت الأنباء عن ذلك في تجارته، يقول شريكه بعد أن انفضت الشركة معه ثلاثين عامًا: “جالست أنواع الناس من العلماء والفقهاء والزهاد والنساك وأهل الورع منهم، فلم أرَ أحدًا أجمع لهذه الخصال من أبي حنيفة، كان إذا دخلت عليه شبهة من شيء، أخرج من قلبه ذلك، ولو بجميع ماله؛ فالشك عنده يزيل اليقين بخلاف القاعدة، كان لا يشتري بما يريد البائع، ولكن بقيمة السلعة في الواقع، وكان يمقت المماكسة، فيطبق الفقه على التجارة بالصدق، فربطت التجارة عنده بين دنيا الفقه ودنيا الناس.
جاء رجل يشتري ثوبًا من خز، فطلب من ابنه حماد أن يخرج له ثوبًا، فنشره وهو يقول: صلى الله على محمد، فقال أبوه: مه قد مدحته، ورفض بيعه بالرغم من إصرار المشتري على شرائه.
وبعث بصفقة ثياب إلى شريكه، وأعلمه أن في ثوب منها عيبًا، وطلب منه أن يبينه للمشتري، فباع شريكه الصفقة ونسي أن يبين عيب الثوب، واستوفى ثمن الجميع، مع أن منه ثوبًا غير كامل، وكان الثمن ثلاثين ألفًا، فأمر شريكه أن يبحث عن المشتري، ولكنه لم يهتدِ إليه، فأبى أبو حنيفة إلا فصالًا من شريكه، وتتاركا، وتصدق بثمن الصفقة كلها.
وجاء رجل بثوب يبيعه، فقال: بكم؟ قال: بكذا، قال: إنه يستحق أكثر من ذلك، ولم يزل يزيده حتى اشتراه بثمانية آلاف.
وجاءته امرأة بثوب وطلبت فيه مائة، فقال لها: هو خير من مائة، بكم تقولين؟ فزادت مائة مائة حتى قالت: أربعمائة، قال: هو خير من ذلك، فقالت: أتهزأ بي؟ قال: هات رجلًا يشتريه، فاشتراه بخمسمائة درهم.
كان عصره يموج بالفتن والفرق – كما هو الآن – فاتخذ لنفسه موقف الحكَمِ الذي لا ينحاز إلا إلى الحق، وصحيح الدين، وحين يضطر إلى الحوار مع مخالفيه كان يسعفه ذكاؤه وسرعة بديهته، كما حدث منه مع الخوارج القائلين بكفر مرتكب الكبيرة، وقد سبق إيراد الحوار معهم، وصرح في الفقه الأكبر بعقيدته الواضحة في قوله: “ولا نكفر مسلمًا بذنب من الذنوب، وإن كان كبيرة، إذا لم يستحلها، ولا نزيل عنه اسـم الإيمان، ونسميه مؤمنًا حقيقة، ويجـوز أن يكون مؤمنًا فاسقًا غير كافر”.
ومن أوضح الأمثلة على عبقريته في الجدال مع مخالفيه حتى يفحمهم أنه كان على موعد مع الزنادقة الذين ينكرون وجود الله وتدبيره للكون، فتأخر عن موعده عمدًا، وحين سئل عن ذلك قال: لم أجد مركبًا يحملني عبر النهر، فوقفت أنتظر، فإذا بلوح من الخشب يظهر فجأة، وإذا بلوح آخر ينضم إليه ويلتصق به، وبلوح ثالث، حتى صارت هذه الألواح سفينة، وليس فيها أحد، فركبتها وأتيت إليكم، فقالوا جميعًا: إن هذا ليس من المعقول! فقال: “أتتعجبون من صنع سفينة بلا صانع، وتنكرون أن يكون لهذا الكون البديع خالق مدبر؟!ومثل هذا المنطق هو الذي يفحم العلمانيين والشيوعيين واللادينيين.
أما موقفه من صفات الله تعالى، فقد كان هذا العصر مثل عصرنا الراهن، تضطرب فيه الآراء حولها، وقد سبق له أن تردد على علماء الكلام في البصرة، ثم انصرف عن هذا المجال لما رأى فيه من مخالفة نهج السلف، وقرر في الفقه الأكبر: “أن الله لا يشبهه شيء من خلقه، ولا يشبه شيئًا من خلقه، لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته الذاتية والفعلية، أما الذاتية فالحياة والقدرة، والعلم والكلام، والسمع والبصر والإرادة، وأما الفعلية فالتخليق والترزيق، والإنشاء والإبداع والصنع، وغير ذلك.
وما أحوج الداعية الآن إلى عدم الخوض في أسماء الله وصفاته، وبخاصة أمام العامة، كما قال الإمام الغزالي بضرورة إلجام العوام عن علم الكلام، وكما قال الفخر الرازي: “لقد تأملت المناهج الفلسفية والطرق الكلامية، فلم أرَها تشفي عليلًا، أو تنفع غليلًا، ورأيت خير الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: ﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ومَن جرَّب مثل تجربتي، عرَف مِثل معرفتي”.
هكذا سار العلماء الأفذاذ مسيرة الإمام الأعظم، وهذا ما ينبغي للدعاة اليوم؛ حتى تأتلف القلوب، وتتجه الطاقات في اتجاهها الصحيح، تدك أعناق الملحدين، وتصد الهجمة الشرسة على هذا الدين.
ونستطيع بعد هذا التطواف في صفات الإمام ومواقفه وتطبيقاته العملية لِما علم من شرع الله: أن نقدم لدعاة الإسلام في هذا العصر نصيحة تقفهم على طريق الإصلاح المأمول؛ فعوامل النجاح والإخفاق من سنن الله التي لا تتبدل؛ ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الفتح: 23].
وتتلخص النصيحة في استعراض هذه النقاط التي برزت في منهج الإمام من حيث الأسلوب والمظهر والأخلاق.
خيرُ الكلام ما أريد به وجه الله – الكلام كثير، ومحكمه يسير – طول الصمت أفضل من الثرثرة، سلاسة اللفظ وتدفق العبارة يحتاج إلى معايشة لغة القرآن، حسن الهيئة والوجه الصبوح وسرعة البديهة من عوامل القَبول لدى المدعوين، الحِلْم والصبر وعدم قابلية الاستفزاز والتواضع وعدم الغرور والعناية بالصف الثاني والثالث من الدعاة رعاية ونصحًا، قيام الليل، وترتيل القرآن وتدبر معانيه.
كل هذه الصفات من أهم ما ينبغي أن يحرص عليه الدعاة الآن.
التعفُّف عن تلقي الأجر أو طلبه من المدعوين ضرورة شرعية، فإذا أمكن للداعية أن يكون له عمل يتكسب منه، كان تأثيره أكبر، والإقبال عليه أكثر؛ اقتداءً بالرسل والعلماء، مكانة الداعي لا تخضع لأصله أو غناه، ولكن لعلمه وخُلقه وجهده، الورع والزهد فيما عند الناس والحرص على البُعد عن الشبهات دليل الإخلاص والقرب من الله، وعلامة على التقوى التي تخرج التقيَّ من المآزق، وتفتح له باب الرزق الواسع.
﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2، 3].
عدم الخوض في عالم الغيب، وبخاصة ما يتعلق بالذات العلية، يجنب الداعية الصدام مع المتزمتين، والجدل مع العوام، ويفسح المجال أمام البيان الواضح لعقيدة الإسلام.