هل وقع العقل العربي المعاصر في سجن الرقمنة

كتبت: سارة هليل
لقد فكرت طويلًا فيما يحدث اليوم لعقولنا، وأخذت أتساءل عن السبب الذي جعل الفجوة بيننا وبين الغرب تتسع أكثر من أي وقت مضى. ما الذي حدث للعقل العربي؟ هل فعلاً تأخرنا عن ركب التقدم كما يقال، أم أن هناك عوامل خفية وراء هذا التأخير؟ بعد تفكير عميق، أرى أن الجواب ليس بسيطًا، بل يحمل في طياته تراكمات تاريخية وثقافية، من أبرزها فترات من الاستعمار والتخلف الفكري، ربما كانت أكثر تأثيرًا مما نتصور.
في التاريخ، لم تكن الفجوة بين الشرق والغرب بهذا الاتساع الذي نراه الآن. ولكن إذا عدنا إلى الوراء، نجد أن الاحتلال العثماني، الذي استمر لفترات طويلة، كان له دور كبير في هذا الواقع.
لم يكن هذا الاحتلال يحمل لنا العلم أو الصناعات الحديثة كما حدث في العديد من الأماكن الأخري؛ بل على العكس، جلب لنا قيودًا من الجهل وأغلال الاستبداد.
وكما أشار الفيلسوف الفرنسي فولتير في كتابه “رسائل فلسفية” إلى أن “الحرية في التفكير والمعرفة هي أساس النهضة” وبدون هذه الحرية، تصبح المجتمعات في حالة من الركود العقلي، وهو ما وصفته بدقة الحالة التي مررنا بها تحت وطأة ذلك الاحتلال، حيث كانت العقول مقيّدة بتقاليد ومعتقدات تعيق التفكير والتطور.
لكن ما يحدث الآن يعيد إلى الأذهان تلك الحقبة من القيود، ولكن في صورة جديدة…
فنحن اليوم نعيش في عصر تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي، ومع ذلك يبدو أن التقدم في هذا المجال لم يحمل لنا الحرية الفكرية التي كنا نأمل فيها، بل أصبحت هذه التقنيات وسيلة جديدة لفرض نوع من الاستبداد الرقمي على عقولنا.
فبينما يفترض أن تكون السوشيال ميديا والتكنولوجيا وسائل للتحرر الفكري والنمو، أصبحت في الواقع أداة لتهميش المعرفة الحقيقية؛ حيث نجد أنه مع انتشار الأخبار الزائفة والمحتوى السطحي، تتراجع قيمة التفكير النقدي العميق، وتغرق عقولنا في بحر من التشتت والسطحية.
من خلال متابعتي للعديد من الآراء الفلسفية والنقدية، يمكنني أن أستعين بما قاله نوربرت إلياس في كتابه “مراقبة الذات”، حيث أشار إلى أن الأنظمة السياسية والاجتماعية في أي عصر غالبًا ما تستخدم الوسائل الحديثة لتوجيه الرأي العام بما يخدم مصالحها. اليوم، أصبح الفضاء الرقمي في يد البعض أداة للسيطرة على العقل الجماعي، وتحويله إلى مجرد مستهلك سريع للمحتوى السطحي، بدلاً من أن يكون حافزًا للإبداع والابتكار. بهذا الشكل، يفرض علينا الغرب حالة مشابهة لحالة السيطرة التي فرضتها الأنظمة التقليدية.
أما في حديثه عن العقلانية، يقول إيمانويل كانط في مقاله الشهير “ما هو التنوير؟” إن “التنوير هو خروج الإنسان من حالة القصور العقلي الذي يفرضه على نفسه”، لكن في عصرنا الرقمي، يبدو أننا في كثير من الأحيان نسجن عقولنا بأنفسنا من خلال استهلاك المعلومات دون تدقيق أو تفكير..
نحن نركض وراء أخبار عابرة، نبحث عن التسلية لا عن الحقيقة، ونخشى من المجهول أكثر من رغبتنا في اكتشافه.
إن هذه الملاحظات تعيدني إلى التفكير في حقيقة ما يحدث للعقل العربي اليوم… لا يمكننا أن نغفل حقيقة أن هناك تحجيمًا حقيقيًا للعقل من خلال الانغماس في هذه الوسائل الحديثة. لقد أصبحت هذه التقنيات أداة للسيطرة على الفكر، تمامًا كما كانت القوى الاستعمارية في الماضي تحاول تقييدنا بكل الطرق الممكنة.
نحن في حاجة ماسة إلى استعادة قدرتنا على التفكير النقدي، وأن نعيد للأذهان حرية التفكير والابتكار التي تحدث عنها فولتير وكانط، التي كانت أساسًا لنهضة الغرب.
إذا أردنا أن ننهض من جديد، يجب علينا أن نعيد ثقافة العقلانية والبحث عن المعرفة الأصيلة بعيدًا عن التسلية أو المعلومات السطحية. ينبغي علينا أن نعلم أن الفضاء الرقمي يمكن أن يكون أداة قوية للتعلم والابتكار إذا استخدمناه بعناية، وليس كما يحدث اليوم من تعميق للجهل وتوجيه للعقول بعيدًا عن الفهم العميق.
علينا أن نستعيد السيطرة على عقولنا، وأن نختار ما نقدمه لها من معلومات بعناية ودقة، وأن نتحرر من القيود الحديثة التي قد تكون أكثر فتكًا من تلك التي فرضها الاستعمار في الماضي.
إن الطريق إلى النهوض لا يمر فقط عبر اكتساب العلم والتكنولوجيا، بل يحتاج أيضًا إلى تحرير عقولنا من التوجهات السطحية، وأن نتبنى ثقافة عقلانية تأخذ بيدنا نحو مستقبل يعيد لنا الريادة في ميدان الفكر والمعرفة.