العالم

واشنطن تعاقبنا على شرف النهوض*

كتب ؛ناصر الجزار

صرح الدكتور محمود ابراهيم بكر الامين العام لاتحاد الصحفيين والإعلاميين الأفارقة بأن *واشنطن تعاقبنا على شرف النهوض*

أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية مؤخراً فرض عقوبات على السودان، بدعوى استخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية خلال معاركه ضد مليشيا الدعم السريع، استناداً إلى تقارير إعلامية – لا أدلة ميدانية أو أممية – نقلتها صحيفة نيويورك تايمز عن مصادر لم تُسمّها. وجاءت العقوبات في وقت يخوض فيه الجيش السوداني معارك حاسمة لاستعادة العاصمة وتطهيرها من تمرد مسلح مزّق البلاد، بينما تحاول حكومة مدنية جديدة أن تجد موطئ قدم لها وسط الركام.

في هذا التوقيت المشحون، اختارت واشنطن أن تغرس سكينها في خاصرة الوطن النازف، مُعلنة عقوباتها كأنها تقول: لا تنتصروا. لا تدافعوا. لا تُكملوا ما بدأتم. فهل أصبحت التقارير الصحفية تُستخدم كقنابل صوتية تسبق الغارات السياسية؟ وهل باتت صفحات الجرائد تُستدعى لتؤدي أدواراً تتجاوز وظيفتها الإعلامية إلى توجيه القرار الدولي على أسس رخوة ومشبوهة؟

السودان يعرف هذا الوجه جيداً. فذاكرة الخرطوم لا تزال تنزف من حصارات لم تميز بين عسكري ومدني، ولا بين حكومة منتخبة ومرحلة انتقالية. حين فرضت واشنطن حصارها في تسعينيات القرن الماضي، لم يكن الحاكم وقتها جنرالاً، بل رئيساً منتخباً. ومنذ ذلك الحين، توالت العقوبات بتوقيتات لا تخطئ، تماماً عندما يقرر السودان أن يفكر بصوت السيادة، أو يمضي في درب الاستقلال الاقتصادي، أو ينهض من كبوة فُرضت عليه قسراً.

منذ عقود، لم يكن الاستقرار السوداني يوماً أولوية أمريكية. بل إن كل خطوة نحو التماسك الوطني كانت تُقابل بقلق هناك في واشنطن، وكأن المطلوب هو إبقاء هذا البلد الكبير ساحةً للاضطراب المزمن، لا مشروعاً لقيام دولة تملك من الموارد ما يمكن أن يُعيد رسم خريطة القوة في إفريقيا والمنطقة العربية.

اليوم، تتهم الولايات المتحدة الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيميائية، في لحظة تتقدم فيها القوات المسلحة بثقة نحو استعادة العاصمة من قبضة مليشيا الدعم السريع، تلك التي وثّقت جرائمها منظمات أممية وتقارير صحفية غربية بلا لبس. ومع ذلك، لا تُوجه واشنطن إصبع الإدانة إلا نحو الجهة التي تقاتل دفاعاً عن الدولة، وتُبقي فوهة اتهامها مصوبة إلى من يحاول إنقاذ السودان من السقوط الحر.

إن هذه العقوبات لا تُقرأ في سياق قانوني، بل تُفهم كرسالة سياسية واضحة: لا تنتصروا، لا تحسموا المعركة، دعوا المليشيا تعبث ما شاءت، فالحرب أداة فعالة لإعادة إنتاج السودان كما تشتهي غرف التفكير الاستراتيجي في الغرب. والأخطر، أن هذا الموقف يُفسر من قبل داعمي التمرد على أنه ضوء أخضر للمضي في تمويل وتسليح المليشيا، دون خوف من ردع دولي، أو إدانة أخلاقية. إنها ذات المعادلة القديمة: حين تقاوم الشعوب، تُعاقب؛ وحين تنهار، تُعزّى.

لكن ما الذي تخشاه واشنطن حقاً؟ ليس الكلور، ولا الغازات السامة، بل دولة تنفض عنها غبار التبعية وتنهض على قدميها. السودان، بتكوينه الجغرافي وثرواته الطبيعية وموقعه المحوري، قادر إن استعاد عافيته أن يُحدث انقلاباً في موازين الإقليم. دولة بهذا الحجم، إن امتلكت القرار السياسي، والأمن المستقر، والاقتصاد المتحرر من الابتزاز، فإنها لن تكون مجرد بلد آخر، بل نموذجاً يُحتذى، وقوة يُحسب لها حساب.

وهذا في حد ذاته، خطر استراتيجي على منظومة الهيمنة، وعلى “الاحتكار الأمريكي للسوق” – لا سيما سوق السلاح الذي يُباع بشروط تعجيزية تحول دون استخدامه، فيغدو عبئاً مالياً وتخزينياً، لا أداة دفاعية حقيقية. إن ما نراه ليس انزعاجاً من استخدام مزعوم لسلاح محظور، بل انزعاجاً من إرادة وطنية صلبة بدأت تتشكل، ومن قيادة مدنية وجيش وطني وشعب منهك لكنه لم ينكسر. أرادوا للسودان أن يكون ساحةً مفتوحة، فإذا به يوشك أن يكون دولة مؤسسات. أرادوه تابعاً خاملاً، فإذا به يسعى لأن يصبح فاعلاً وملهماً.

حين تُعاقب واشنطن السودان لأنه يدافع عن ترابه ضد مليشيا إرهابية ارتكبت الفظائع، فإنها تكشف نواياها بوضوح: لا نريد دولة سودانية قوية، بل فسيفساء من النزاعات والفوضى تُغذي مصالح الشركات العابرة للقارات. لكن السودان ليس مائدة تأكل منها الذئاب، ولا صحراء تبتلع الأمل. إنه وطن تعمّد بالتاريخ، وخُلق ليقاوم. وعلى ضفاف النيل، حيث تكتب الشمس أغانيها الأخيرة، سيولد الصبح ولو كره الأعداء.

وفي مواجهة هذا المشهد، على الحكومة السودانية أن تتحرك بحكمة وحزم، على ثلاث جبهات لا غنى لإحداها عن الأخرى. في الجبهة الإعلامية، لابد من بيان رسمي متزن ينفي بشكل قاطع استخدام أي سلاح كيميائي، ويدعو إلى تحقيق دولي مستقل تشرف عليه جهات أممية نزيهة، مع تحميل مليشيا الدعم السريع مسؤولية إثارة الشائعات ونشر الأكاذيب. كما يجب إطلاق حملة إعلامية دولية تستعرض بالأدلة الموثقة جرائم الدعم السريع، مستندة إلى تقارير من الأمم المتحدة، وهيومن رايتس ووتش، والعفو الدولية، ووسائل إعلام عالمية محايدة. هذه الحملة يجب أن تتضمن مقابلات مكثفة للمسؤولين السودانيين، وإطلاق منصة رقمية متعددة اللغات لتوثيق الحقائق وتفنيد الادعاءات.

أما على الجبهة الدبلوماسية، فينبغي دعوة الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية لاتخاذ موقف مناهض للعقوبات الأحادية، والتواصل مع الحلفاء الدوليين مثل روسيا، الصين، تركيا، ودول الخليج لدعم الموقف السوداني في مجلس الأمن. ويجب أن تستثمر الحكومة التوافق الدولي حول قيادتها المدنية الجديدة، وتُذكّر المجتمع الدولي بأن هذه فرصة نادرة لدعم السلام، لا لإجهاضه بالضغوط السياسية.

وعلى الصعيد القانوني، يتوجب تشكيل لجنة قانونية وطنية ودولية لتفكيك المزاعم الأمريكية بلغة القانون، ومخاطبة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) لطلب إرسال بعثة فنية تحقق في الوقائع ميدانياً. وفي ذات الوقت، يجب التحرك قضائياً ضد قادة مليشيا الدعم السريع في المحكمة الجنائية الدولية، بما يعيد تعريف من هو المتهم الحقيقي ومن هو الضحية في هذه الحرب.

والرسالة التي ينبغي أن تتردد في كل منبر، وتُلقى في كل عاصمة، وتُترجم لكل لغة، هي: نرفض الادعاءات الأمريكية غير المدعومة بأدلة موثقة، والتي تتزامن بشكل يثير الريبة مع تقدم الجيش السوداني في دحر مليشيا الدعم السريع الإرهابية. السودان يؤكد احترامه الكامل لاتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية ويدعو إلى تحقيق أممي مستقل. نعتبر هذه العقوبات خطوة تؤثر سلباً على فرص استقرار البلاد ودعم الحكومة المدنية الجديدة التي حظيت بترحيب واسع، وهي بصدد بناء مؤسسات تستند إلى القانون والعدالة، لا إلى تقارير صحفية مجهولة المصدر.
24/05/2025
نافذة الكاتب:
https://shorturl.at/ewE1D

أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية مؤخراً فرضا عقوبات على السودان، بدعوى استخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية خلال معاركه ضد مليشيا الدعم السريع، استناداً إلى تقارير إعلامية – لا أدلة ميدانية أو أممية – نقلتها صحيفة نيويورك تايمز عن مصادر لم تُسمّها. وجاءت العقوبات في وقت يخوض فيه الجيش السوداني معارك حاسمة لاستعادة العاصمة وتطهيرها من تمرد مسلح مزّق البلاد، بينما تحاول حكومة مدنية جديدة أن تجد موطئ قدم لها وسط الركام.

في هذا التوقيت المشحون، اختارت واشنطن أن تغرس سكينها في خاصرة الوطن النازف، مُعلنة عقوباتها كأنها تقول: لا تنتصروا. لا تدافعوا. لا تُكملوا ما بدأتم. فهل أصبحت التقارير الصحفية تُستخدم كقنابل صوتية تسبق الغارات السياسية؟ وهل باتت صفحات الجرائد تُستدعى لتؤدي أدواراً تتجاوز وظيفتها الإعلامية إلى توجيه القرار الدولي على أسس رخوة ومشبوهة؟

السودان يعرف هذا الوجه جيداً. فذاكرة الخرطوم لا تزال تنزف من حصارات لم تميز بين عسكري ومدني، ولا بين حكومة منتخبة ومرحلة انتقالية. حين فرضت واشنطن حصارها في تسعينيات القرن الماضي، لم يكن الحاكم وقتها جنرالاً، بل رئيساً منتخباً. ومنذ ذلك الحين، توالت العقوبات بتوقيتات لا تخطئ، تماماً عندما يقرر السودان أن يفكر بصوت السيادة، أو يمضي في درب الاستقلال الاقتصادي، أو ينهض من كبوة فُرضت عليه قسراً.

منذ عقود، لم يكن الاستقرار السوداني يوماً أولوية أمريكية. بل إن كل خطوة نحو التماسك الوطني كانت تُقابل بقلق هناك في واشنطن، وكأن المطلوب هو إبقاء هذا البلد الكبير ساحةً للاضطراب المزمن، لا مشروعاً لقيام دولة تملك من الموارد ما يمكن أن يُعيد رسم خريطة القوة في إفريقيا والمنطقة العربية.

اليوم، تتهم الولايات المتحدة الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيميائية، في لحظة تتقدم فيها القوات المسلحة بثقة نحو استعادة العاصمة من قبضة مليشيا الدعم السريع، تلك التي وثّقت جرائمها منظمات أممية وتقارير صحفية غربية بلا لبس. ومع ذلك، لا تُوجه واشنطن إصبع الإدانة إلا نحو الجهة التي تقاتل دفاعاً عن الدولة، وتُبقي فوهة اتهامها مصوبة إلى من يحاول إنقاذ السودان من السقوط الحر.

إن هذه العقوبات لا تُقرأ في سياق قانوني، بل تُفهم كرسالة سياسية واضحة: لا تنتصروا، لا تحسموا المعركة، دعوا المليشيا تعبث ما شاءت، فالحرب أداة فعالة لإعادة إنتاج السودان كما تشتهي غرف التفكير الاستراتيجي في الغرب. والأخطر، أن هذا الموقف يُفسر من قبل داعمي التمرد على أنه ضوء أخضر للمضي في تمويل وتسليح المليشيا، دون خوف من ردع دولي، أو إدانة أخلاقية. إنها ذات المعادلة القديمة: حين تقاوم الشعوب، تُعاقب؛ وحين تنهار، تُعزّى.

لكن ما الذي تخشاه واشنطن حقاً؟ ليس الكلور، ولا الغازات السامة، بل دولة تنفض عنها غبار التبعية وتنهض على قدميها. السودان، بتكوينه الجغرافي وثرواته الطبيعية وموقعه المحوري، قادر إن استعاد عافيته أن يُحدث انقلاباً في موازين الإقليم. دولة بهذا الحجم، إن امتلكت القرار السياسي، والأمن المستقر، والاقتصاد المتحرر من الابتزاز، فإنها لن تكون مجرد بلد آخر، بل نموذجاً يُحتذى، وقوة يُحسب لها حساب.

وهذا في حد ذاته، خطر استراتيجي على منظومة الهيمنة، وعلى “الاحتكار الأمريكي للسوق” – لا سيما سوق السلاح الذي يُباع بشروط تعجيزية تحول دون استخدامه، فيغدو عبئاً مالياً وتخزينياً، لا أداة دفاعية حقيقية. إن ما نراه ليس انزعاجاً من استخدام مزعوم لسلاح محظور، بل انزعاجاً من إرادة وطنية صلبة بدأت تتشكل، ومن قيادة مدنية وجيش وطني وشعب منهك لكنه لم ينكسر. أرادوا للسودان أن يكون ساحةً مفتوحة، فإذا به يوشك أن يكون دولة مؤسسات. أرادوه تابعاً خاملاً، فإذا به يسعى لأن يصبح فاعلاً وملهماً.

حين تُعاقب واشنطن السودان لأنه يدافع عن ترابه ضد مليشيا إرهابية ارتكبت الفظائع، فإنها تكشف نواياها بوضوح: لا نريد دولة سودانية قوية، بل فسيفساء من النزاعات والفوضى تُغذي مصالح الشركات العابرة للقارات. لكن السودان ليس مائدة تأكل منها الذئاب، ولا صحراء تبتلع الأمل. إنه وطن تعمّد بالتاريخ، وخُلق ليقاوم. وعلى ضفاف النيل، حيث تكتب الشمس أغانيها الأخيرة، سيولد الصبح ولو كره الأعداء.

وفي مواجهة هذا المشهد، على الحكومة السودانية أن تتحرك بحكمة وحزم، على ثلاث جبهات لا غنى لإحداها عن الأخرى. في الجبهة الإعلامية، لابد من بيان رسمي متزن ينفي بشكل قاطع استخدام أي سلاح كيميائي، ويدعو إلى تحقيق دولي مستقل تشرف عليه جهات أممية نزيهة، مع تحميل مليشيا الدعم السريع مسؤولية إثارة الشائعات ونشر الأكاذيب. كما يجب إطلاق حملة إعلامية دولية تستعرض بالأدلة الموثقة جرائم الدعم السريع، مستندة إلى تقارير من الأمم المتحدة، وهيومن رايتس ووتش، والعفو الدولية، ووسائل إعلام عالمية محايدة. هذه الحملة يجب أن تتضمن مقابلات مكثفة للمسؤولين السودانيين، وإطلاق منصة رقمية متعددة اللغات لتوثيق الحقائق وتفنيد الادعاءات.

أما على الجبهة الدبلوماسية، فينبغي دعوة الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية لاتخاذ موقف مناهض للعقوبات الأحادية، والتواصل مع الحلفاء الدوليين مثل روسيا، الصين، تركيا، ودول الخليج لدعم الموقف السوداني في مجلس الأمن. ويجب أن تستثمر الحكومة التوافق الدولي حول قيادتها المدنية الجديدة، وتُذكّر المجتمع الدولي بأن هذه فرصة نادرة لدعم السلام، لا لإجهاضه بالضغوط السياسية.

وعلى الصعيد القانوني، يتوجب تشكيل لجنة قانونية وطنية ودولية لتفكيك المزاعم الأمريكية بلغة القانون، ومخاطبة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) لطلب إرسال بعثة فنية تحقق في الوقائع ميدانياً. وفي ذات الوقت، يجب التحرك قضائياً ضد قادة مليشيا الدعم السريع في المحكمة الجنائية الدولية، بما يعيد تعريف من هو المتهم الحقيقي ومن هو الضحية في هذه الحرب.

والرسالة التي ينبغي أن تتردد في كل منبر، وتُلقى في كل عاصمة، وتُترجم لكل لغة، هي: نرفض الادعاءات الأمريكية غير المدعومة بأدلة موثقة، والتي تتزامن بشكل يثير الريبة مع تقدم الجيش السوداني في دحر مليشيا الدعم السريع الإرهابية. السودان يؤكد احترامه الكامل لاتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية ويدعو إلى تحقيق أممي مستقل. نعتبر هذه العقوبات خطوة تؤثر سلباً على فرص استقرار البلاد ودعم الحكومة المدنية الجديدة التي حظيت بترحيب واسع، وهي بصدد بناء مؤسسات تستند إلى القانون والعدالة، لا إلى تقارير صحفية مجهولة المصدر.
24/05/2025
نافذة الكاتب:
https://shorturl.at/ewE1D

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى