مقالات

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي ورئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين يتحدث عن قول الله تعالى (وإذا قيل لهم لاتفسدوا فى الأرض)

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن قول الله تعالى (وإذا قيل لهم لاتفسدوا فى الأرض)
بقلم \ المفكر العربى الدكتورخالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا
الرئيس التنفيذي لجامعة سيتي بكمبوديا
الرئيس التنفيذي للمؤسسة الدولية للدراسات المتقدمة بأمريكا
ورئيس جامعة الوطن العربي الدولي ( تحت التأسيس )
الرئيس الفخري للجمعية المصرية لتدريب وتشغيل الخريجين
الرئيس الفخري لمنظمة العراق للإبداع الإنساني بألمانيا الإتحادية
الرئيس التنفيذي للجامعة الأمريكية الدولية
الرئيس الفخري للمركز الدولي الفرنسي للعلماء والمخترعين
الرئيس الشرفي للإتحاد المصري للمجالس الشعبية والمحلية
قائمة تحيا مصر
قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 11، 12].
يقول الله تعالى ذكره: إن هؤلاء المنافقين الذين يقولون بألسنتهم: آمنا بالله، وما هم في الواقع ونفس الأمر بمؤمنين؛ الذين يخادعون الله والذين آمنوا بنفاقهم ومداهنتهم فيكونون في السر مع شياطينهم بلون، وفي العلن مع المؤمنين بلون آخر لما في قلوبهم من أمراض الشكوك والشبهات، وأدواء الأهواء والشهوات، وعلل الجبن والخبث الذي جعلهم كالحيات والعقارب، وهم أبداً في ازدياد من هذه الأمراض وارتكاس في هذه الأدواء حتى توردهم موارد العذاب الأليم – إن هؤلاء المنافقين من شدة تمكن أمراض الشكوك والشبهات والخبث واللؤم والجبن في قلوبهم، وعظم ما طمس الجهل والهوى والتقليد الأعمى على بصائرهم انتكست قلوبهم، وانعكست بصائرهم، فأصبحت تعتقد وترى الفساد صلاحاً والصلاح فساداً، والحق باطلاً والباطل حقاً؛ والشر خيراً والخير شراً: تبعاً لتقدير هذا القلب المريض المنتكس، ونتيجة هذا التلون النفسي القذر، وأثر هذا التقليد الذي تحكم في المنافق؛ فلا يرى إلا بعين مقلده؛ ولا يسمع إلا بسمعه، ولا يفقه إلا بعقله؛ ولا يفكر إلا بتفكيره، ولا يعرف إلا ما عرف، ولا ينكر إلا ما أنكر، بغير هدى ونور وعلى غير علم، وبصيرة وهذا لعمر الله أعظم ما يملأ الأرض فساداً وشراً. إذ ليس أصلح للأرض وأهلها من أن يعرفوا نعمة ربهم، فيقدروها قدرها، ويستفيدوا منها وينتفعوا بها ويحفظوها ويصونوها من التلف والضياع. فإن الله لا يرضى بإضاعة نعمته وإتلافها وإنه ينتقم ممن يعرضها للتلف والضياع.
وأجل نعمة الله: هي نعمة الوحي الذي ينزله الله من عنده غيثاً لأهل الأرض وحياة لقلوبهم، وسعادة لهم في دنياهم وآخرتهم؛ ثم بعد نعمة الوحي بهذا العلم نعمة العقل الذي به يفقه العبد عن ربه؛ ويعلم ما أوحى به من عنده هدى ورحمة له. ولأجل هذا خلق الله الإنسان؛ ولأجل هذا خلق السموات والأرض؛ ولأجل هذا خلق الجنة والنار. فإذا كفر العبد بهاتين النعمتين، فرد الوحي بالهوى والرأي، وقتل العقل بالتقليد الذي يجعله كالحيوان الأعجم يوضع المقود في عنقه ثم يجر منه إلى حيث تقتل الإنسانية التي أكرمها الله، وتمتهن النعمة التي بها تفضل الله، ويكون كما وصف الله: ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].
وإذا نصحه ناصح مشفق، ودعاه إلى تطهير نفسه من تلك الأرجاس، وتزكيتها عن تلك الأقذار. رماه بالجهل والحمق، وقال له: أنت مسكين مخدوع عن نفسك إذ ظننتها تستطيع مستقلة أن تفهم عن الله ما يريد من آياته وشرعته، وأن عندك من العقل والفهم مثل فلان وفلان. أنت مفسد للدين والعقول. أنت معتد وظالم أنت ضال مضل. إنا ننصحك ونعظك، وندعوك أن تضع أنت كذلك حبل التقليد في عنقك، وتسلم نفسك وعقلك وتفكيرك لمتن كذا وشرح كذا وحاشية كذا، وإلا كنت من الخاسرين. فإن هؤلاء حرثوا وغرسوا وحصدوا وطحنوا وعجنوا وخبزوا، وجاءوك به طعاماً حاضراً بلا عناء ولا مشقة ولا تعب ولا نصب. فمالك وللوحي وآياته، ومالك ولكلام النبي تضيع وقتك في قراءته وهو مقفل الأبواب دونك. ومالك تتعب وتنصب، ثم لن تصل إلى مثل هذا الطعام الحاضر.
وهكذا يقول أولئك المنافقون الذين يقولون آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين؛ زاعمين أن هذا هو الصلاح والإصلاح للناس؛ وما شعروا أن ذلك هو شر إفساد في الأرض؛ لأنهم قتلوا العقول، وامتهنوا كرامة الإنسان، وبدلوا نعمة الله كفرا، وجعلوا أنفسهم كما وصف الله تعالى في قوله ﴿ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 171].
النفاق: جرثومة الفساد، وأصل البلاء والشقاء. فهو شر ما يقتل الأخلاق الفاضلة؛ وينزع عن النفس ثوب الكرامة والعزة؛ ويجردها من كل فضيلة وميزة حميدة، ولكن صاحبه لا يشعر بذلك، لأنه فقد الحياة التي يحس بها الكرامة؛ ويعرف بها ذلك الشر والفساد في النفاق.
المنافق: لا يعرف نفسه إلا سلعة مهينة، يبيعها من كل راغب بأبخس الأثمان وأحقرها، فهو عبد لأولئك الشركاء المتشاكسين يقضي حياته في مرضاتهم والتزلف إليهم بما يحبون ولن يبلغ مرضاة المتشاكسين فلا يزال بنفسه وبهم معذبا؛ ولا تزال حياته شقاءً، وعيشه نكداً؛ وهو يداهن نفسه ويخادعها بأنها في خير عيش وأهنأ حياة ما دامت تتملق سادتها وتسترضيهم.
المنافق: قتل نفسه شر قتلة، فإنه يذيبها في حياة من يتملقهم، ويلاشيها في نفسيات سادته الذين يداهنهم ويداجيهم. يتكلم بلسانهم وإن كان يعتقده منكراً وزوراً، ويفقه بعقلهم وإن كان يعلمه سفيهاً حقيراً، ويرضى بما يرضون وإن عرف أذاه كبيراً، ويغضب لما يغضبون وإن أيقن أن خيره في نفسه كثيراً، فهو إمعة لا شأن لها ولا خطر، بل هو ذبابة تطن بالهواء الذي حولها، وفراشة يجذبها الضوء لهلاكها وحتفها. وهو مع هذا يزعم نفسه عظيما كريما، ويتوهم نفسه معافى سليما. المنافق: جبان ذليل. يمدح الناس بخلاف ما يعتقد، صغاراً وجبناً وخوفا منهم ويسترضيهم وهو يمقتهم، لأنه يخشاهم فلا يجرأ أن يظهرهم على مقته لهم. والجبن والذلة شر ما يفسد حياة الأمة، ويقضى على مقوماتها، ويجعلها كغثاء السيل لا يمسك نفسه ولا غيره.
النفاق والمنافقون أضر على الأمة من كل الأمراض، وأشد فتكاً فيها، وأعظم قتلاً لها من الكُليرا والطاعون. وإن كنت في شك من ذلك فانظر إن كنت ذا نظر إلى الأمة المصرية وغيرها ممن على شاكلتها من الأمم الإسلامية، وما هي عليه من الصغار والذلة، والشقاء ونكد العيش؛ والبؤس المستحكم. كل ذلك لأنها فشا فيها مرض النفاق وكثر فيها المنافقون، الذين يتخذون الدين صناعة، والفقه حرفة، والزهد مصيدة وشبكة.
لبسوا للناس جلود الضأن تظاهراً بالتواضع، ألسنتم حلوة وقلوبهم مثل قلوب الذئاب، يمالئون الأمراء؛ ويداهنون الكبراء، حين فشا فيهم هذا الخلق، وكثر فيها هذا الصنف – لا كثرهم الله – عم الناس الفساد، وأصيبت الأمم الإسلامية بالانتكاس والارتكاس في شؤونها كلها، وأصبح أمرها فرطاً؛ وأصبح الجميع – إلا من شاء الله – مرائين مداهنين، منافقين. يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، ويظهرون غير ما يبطنون، ويسرون خلاف ما يعلنون، وأحاط بالقلوب سور من الجبن والذلة حتى أصبحوا يتملقون عدوهم الذي ينهل من دمائهم، ويداهنون الوحش المفترس الذي يمزق أوصالهم، وينهش لحومهم ويتسابقون إلى مرضاته، وهواه بكل ما يستطيعون. ويزعمون مع هذا أنهم مصلحون وأنهم يعملون على إنقاذ الأمم الإسلامية من براثن الوحش، وتخليصها من مخالب العدو بهذه السياسة التي يسمونها حكيمة. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.
قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ﴾ [البقرة: 204 – 206].
هذه صفات كثير ممن يدعون الإصلاح، ويضعون أنفسهم في مكان الزعامة من الأمة والأمر لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قول الله تعالى ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 13].
المراد من الناس هنا: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ومن تبعهم بإحسان الذين وصفهم الله في كثير من آي القرآن الحكيم:
﴿ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الأنفال: 2، 3].
﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191]. الآيات من آخر سورة آل عمران.
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 – 5].
الذين يكون قولهم: ﴿ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 51].
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾ [الفرقان: 73].
﴿ الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [السجدة: 15، 16].
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الحجرات: 15].
﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 20 – 22].
هؤلاء الذين وصفهم الله سبحانه بما سمعت بعضه من آي الذكر الحكيم: هم الناس على الحقيقة، الذين بهم تعمر الأرض، ولأجلهم ينزل الله رحمته، ويفتح ينابيع البركات من السماء والأرض. وغيرهم من الكافرين والمنافقين همل، لا يعبأ الله بهم شيئًا؛ ولو يؤاخذهم الله بعملهم، ويعاملهم بذنوبهم ما ترك عليها من دابة، ولكن واحدا من المؤمنين الذين رضي عنهم ورضوا عنه يساوي عند الله ملء الأرض منهم؛ فينظر الله إليه وينزل على الأرض رحمته، ويسبغ آلاءه فتعم وينتفع بها أولئك الهمل، ثم يؤاخذ الله المجرمين يوم القيامة بما كانوا يكسبون.
فالمؤمنون هم الناس على الحقيقة، وغيرهم – وإن كان صورتهم صور الناس فهم أولى باسم البهائم والأنعام لعدم تمييزهم؛ ولأنهم كفروا بنعمة الله في مزايا الإنسانية فقتلوها، وتجردوا منها، وصيروا أنفسهم كالأنعام تقاد بغير هدى، وكالحمار يدور في رحاه لا يعرف لماذا؟ ولا همّ لهم إلا حيوانيتهم الخسيسة، ولا يفكرون إلا في بطونهم وفروجهم؛ كما قال تعالى ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾ [محمد: 12].
يقول الله تعالى ذكره: إذا نصح الناصح أولئك المنافقين: أن يؤمنوا الإيمان القلبي الصادق الذي هو ثمرة العلم الصحيح من قول الله، ونتيجة النظر السليم في آيات الله وسننه، الإيمان القوي المنزه عن التقليد الأعمى للشيوخ والآباء، الإيمان الصافي المبرأ عن التقاليد الموروثة، والعادات الخرافية الشائعة؛ مثل إيمان إبراهيم الخليل وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم جميعا، ومثل إيمان الرجال المكملة من أتباع هؤلاء الأنبياء، فإن هذا الإيمان النقي القوي اليقيني هو الذي يقوي العقل، ويصفى النفس، ويزكى الروح، وهو الذي يوسع مدى النظر والتفكير الصحيح، وهو الذي يملأ جوانح صاحبه نوراً وهدى، فيثمر له الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا، ويصبح من أولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعوداً وعلى جنوبهم، والذي يملأ قلب صاحبه رحمة ورقة لإخوانه المؤمنين، وبأساً وشدة وشجاعة وقوة وكرها ومقتا لأعدائه من الكافرين والمنافقين ﴿ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29] ﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54]، والذي يورث الله أهله العزة والقوة والسلطان والملك، وفلاح الدنيا وسعادة الآخرة.
إذا نصح الناصح أولئك المنافقين المرضى القلوب، المظلمي الأرواح والنفوس أن يؤمنوا هذا الإيمان؛ أبت عليهم نفوسهم المريضة أن ترضى بهذا الهدى والإيمان وعصت أن تقبل هذه السعادة الخالدة والفوز الأبدي؛ إذ طمس النفاق بصائرهم، فظنوا أن العقل والسياسة والكياسة في هذا الرياء وهذا النفاق وتلك المداهنة، وأن يكونوا مذبذبين بين المؤمنين والكافرين؛ لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء؛ لينتفعوا (بزعمهم) بخير الجميع وليحظوا برضى الطائفتين، وبئس ما يصنعون ويفهمون؛ فإنهم والله لم ينالوا رضى واحدة منهما، والمنافق مبغوض من الجميع، وممقوت عند كل الناس وهو يوم القيامة في الدرك الأسفل من النار. فأسفه الناس وأحمقهم، وأبعدهم عن العقل والحكمة، والهدى والرحمة: المنافق الذي يظهر كل يوم بلون، والذي يلبس لكل طائفة وجهاً، ولكنه لما على قلبه من الظلمات، ولما في نفسه من الفساد المستحكم، والجهل المطبق: يظن نفسه عاقلاً حكيماً؛ ومفكراً تفكيراً سليماً؛ فهو لا يعلم بمرضه الذي يأكل قلبه، ولا يعرف داءه الذي يهد قوى عقله وروحه ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 12].
قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: هذا خبر من الله عن المنافقين الذي تقدم نعته لهم، ووصفه إياهم بما وصفهم به من الشك والتكذيب: أنهم هم الجاهلون في أديانهم؛ والضعفاء الآراء في اعتقاداتهم واختياراتهم التي اختاروها لأنفسهم: من الشك والريب في أمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأمر نبوته، وفيما جاء به من عند الله، وأمر البعث، لإساءتهم إلى أنفسهم بما أتوا من ذلك وهم يحسبون أنهم إليها يحسنون. وذلك هو عين السفه، لأن السفيه إنما يفسد من حيث يرى أنه يصلح، ويضيع من حيث يرى أنه يحفظ، فكذلك المنافق يعصي ربه من حيث يرى أنه يطيعه، ويكفر به من حيث يرى أنه يؤمن به، ويسيء إلى نفسه من حيث يرى أنه يحسن إليها، كما وصفهم ربنا جل ذكره ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 12] ا هـ.
وفي الآية: ما يشير إلى أن دعوى الإيمان يتبجح بها كثير، ولكن لن تكون دعوى أولئك المتبجحين نافعة إلا إذا قاسوا إيمانهم ووزنوه في الاعتقاد والتوحيد والأعمال والعبادات والأذكار والأخلاق بإيمان الكملة: من الناس الذين هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم معيار النجاة في كل شيء. فمن ابتدع أو أحدث جديداً في الدين: في العقائد أو الأعمال أو العبادات أو الأذكار أو غير ذلك ثم زعم أنه مؤمن وأن عقائده من الإيمان، وأعماله صالحة، فهو كاذب وهو من المنافقين.
واختبر أكثر الناس اليوم، فإنك قل أن تجد مَن عقيدته وعمله وعبادته وخلقه على ما كان عليه الأمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. لا بل إنك لتجد أكثرهم ينفر من ذلك، ويكاد يجاهر باحتقار هذه السنن الطيبة، ويزعم أن ما عليه هو وأئمته المفسدون خير مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعهم، وأئمة الهدى من السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين.
والأعجب من هذا أنهم يدّعون الإيمان برسول الله، ويزعمون الانتساب إلى مثل مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد رضي الله عنهم من الأئمة المهتدين، فإذا جئت أولئك المنافقين بقال الله، أو قال رسول الله، أو قال مالك مثلا؛ قالوا هذا مؤوَّل بكذا ويجب صرفه عن معناه بكذا، وهذا مجاز عن كذا وهذا استعارة لكذا وهذا كان في الزمن الغابر وقد استحسن الناس من بعد ذلك غيره وقد رأوا ما هو أصلح للأمة في دنياها ودينها من هذا، وقد أجمع الناس على غير هذا، وإذا اجتمع الإجماع (أي إجماع هؤلاء المرضى المساكين ومقلِّديهم) والنص، قدم الإجماع على النص، وأمثال ذلك مما يزعمونه أعلم وأحكم؛ ويزعمون به أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعهم لم يكونوا من العلم والحكمة بحيث يعرفون هذه التأويلات وهذه التخريجات، وهذه المجازات والاستعارات، وغير ذلك من مستهجن القول ومنكره، مما يرجع في حقيقته إلى مرض القلوب بداء الجهل والشك في أن رسول الله هو إمام الهدى؛ وأنه هو الذي اختصه الله بالدعوة إلى فلاح الدنيا والآخرة؛ وأن الله ضمن ذلك وأكده في كثير من آي الذكر الحكيم. ولو أنهم آمنوا بذلك وعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم المعرفة الصحيحة لسلموا من هذه الأمراض؛ وتعافت قلوبهم من داء النفاق.
﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
ونسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة؛ وأن يزيد في نور بصيرتنا، وفي هداية قلوبنا؛ وأن يوفق الجميع لفهم حقيقة هذا الكتاب الكريم وللانتفاع بهدي سيد الأنبياء وخاتم المرسلين عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى