مقالات
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن فقه الإستشراق
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن فقه الإستشراق
بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
كلمة الاستشراق لفظة مولدة من لفظ (استشراق) المأخوذ من مادة (شرق) أي مستشرق.
فالاستشراق مصطلح مولد سكّه العرب المحدثون مقابلاً لكلمة: “Orientalism” الإنجليزية، وكلمة: “Orientalisme” الفرنسية، وأغلب الظن أنه دخل العربية أول ما دخل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أو نحو ذلك[1].
والمقصود به: دراسات أكاديمية يقوم بها غربيون كافرون – من أهل الكتاب بوجه خاص- للإسلام والمسلمين من شتى الجوانب: عقيدة، وشريعة، وثقافة، وحضارة، وتاريخياً، ونظماً، وثروات وإمكانيات.. بهدف تشويه الإسلام، ومحاولة تشكيك المسلمين فيه، وتضليلهم عنه، وفرض التبعية للغرب عليهم، ومحاولة تبرير هذه التبعية بدراسات ونظريات تدّعي العلمية والموضوعية وتزعم التفوق العنصري والثقافي للغرب المسيحي على الشرق الإسلامي[2].
وكان أول ظهور للمستشرقين في اللغة الإنجليزية نحو عام (1779م)، وباللغة الفرنسية عام (1799م)[3].
نشأة الاستشراق:
اختلف الباحثون كثيراً في بداية حركة الاستشراق على أقوال عدة؛ فبعض منهم يُرجع تاريخ الاستشراق في بعض البلدان الأوروبية إلى القرن الثالث عشر الميلادي، ومنهم من يقول بأن هناك محاولات غير منظمة ظهرت قبل هذا التاريخ من القرن العاشر الميلادي، غير أن المصادر لا تلقي الضوء الكافي على الموضوع وإن أشارت إلى بعض المستشرقين كأفراد. ويكاد المؤرخون يجمعون على أن الاستشراق انتشر في أوروبا بصورة جدية بعد فترة الإصلاح الديني، أي في القرن السادس عشر الميلادي، كما يشهد بذلك التاريخ في هولندا والدينمارك وغيرهما.
ثانياً: دوافع المستشرقين وأهدافهم:
إذا كان الاستشراق قد بدأ بدراسة اللغة العربية والإسلام، فإن الدافع لذلك لم يكن دافعاً علمياً خالصاً لدى جمهرة المستشرقين؛ لأن من طبيعة الدافع العلمي أن يكون نزيهاً عادلاً، حريصاً على استجلاء الحقيقة بتجرد وصدق وإنصاف، لا تتحكم فيه موروثات أو رواسب ثقيلة مما صنعته البيئة الخاصة، أو أملته وقائع تاريخية معينة تتم بتسجيل فترات الخصومات الدموية والنزاع العدواني.
ولكن هذه الشروط التي تجعل دراسة الاستشراق للإسلام وتاريخه واللغة العربية عملاً علمياً صحيحاً ليست متوفرة للمستشرقين الأوروبيين الذين اتجهوا للدراسات الإسلامية، ذلك أن موقف الأوروبي من الإسلام ليس موقف كره في غير مبالاة فحسب، كما هي الحال في موقفه من سائر الأديان والثقافات، بل هو كره عميق الجذور يقوم في الأكثر على صدور من التعصب الشديد، وهذا الكره ليس عقلياً فحسب، لكنه يصطبغ – أيضاً – بصبغة عاطفية قوية، فقد لا تقبل أوروبا تعاليم الفلسفة البوذية أو الهندوكية، لكنها تحتفظ دائماً – فيما يتعلق بهذين المذهبين – بموقف عقلي متزن ومبني على التفكير، إلا أنها حالما تتجه إلى الإسلام يختل التوازن، ويأخذ الميل العاطفي بالتسرب؛ حتى أن أبرز المستشرقين الأوروبيين جعلوا من أنفسهم فريسة التحزب غير العلمي في كتاباتهم عن الإسلام، ويظهر في جميع بحوثهم -على الأكثر- كما لو أن الإسلام لا يمكن أن يعالج على أنه موضوع بحث في البحث العلمي، بل على أنه متهم يقف أمام قضاته. إن بعض المستشرقين يمثلون دور المدعي العام الذي يحاول إثبات الجريمة، وبعضهم يقوم مقام المحامي في الدفاع، فهو مع اقتناعه شخصياً بإجرام موكله لا يستطيع أكثر من أن يطلب له مع شيء من الفتور اعتبار الأسباب المخففة.
وعلى الجملة فإن طريقة الاستقراء والاستنتاج التي يتبعها أكثر المستشرقين تذكرنا بوقائع دواوين التفتيش؛ تلك الدواوين التي أنشأتها (الكنيسة الكاثولوكية) لخصومها في العصور الوسطى؛ أي أن تلك الطريقة لم يتفق لها أبداً أن نظرت في القرائن التاريخية بتجرد، ولكنها كانت في كل دعوى تبدأ باستنتاج متفق عليه من قبل، قد أملاه عليها تعصبها لرأيها، ويختار المستشرقون شهودهم حسب الاستنتاج الذي يقصدون إليه مبدئياً، وإذا تعذر عليهم الاختيار العرفي للشهود، عمدوا إلى اقتطاع أقسام من الحقيقة التي شهد بها الشهود الحاضرون ثم فصلوها من المتن أو تأولوا الشهادات بروح غير علمي من سوء القصد، دون أن ينسبوا قيمة ما إلى عرض القضية من وجهة نظر الجانب الآخر، أي من قبل المسلمين أنفسهم.
وليست نتيجة هذه المحاكمة سوى صورة مشوهة للإسلام وللأمور الإسلامية نواجهها في جميع ما كتبه مستشرقو أوروبا، وليس ذلك قاصراً على بلد دون آخر -إنك تجده في إنكلترا وألمانيا، وفي روسيا وفرنسا، وفي إيطاليا وهولندا- وبكلمة واحدة، في كل صقع يتجه المستشرقون فيه بأبصارهم نحو الإسلام، ويظهر أنهم ينتشون بشيء من السرور الخبيث حينما تعرض لهم فرصة – حقيقية أو خيالية – ينالون بها من الإسلام عن طريق النقد[4].
أولاً: الدافع الديني ويتلخص في الآتي:
1- الضعف في الإسلام وتشويه حقائقه، والافتراءات عليه بمختلف الأكاذيب من قبل الرهبان؛ لكي يثبتوا لجماهيرهم التي تخضع لزعامتهم الدينية أن الإسلام هو الخصم الوحيد للمسيحية، وهو دين لا يستحق الانتشار، وأن المسلمين قوم همج لصوص وسفاكو دماء، يحثهم دينهم على الملذات الجسدية ويبعدهم عن كل سمو روحي وخلقي[5].
2- حماية النصارى من خطر الإسلام بالحيلولة بينهم وبين رؤية حقائقه الناصعة، وآياته البينة الواضحة، وتاريخه المجيد؛ حتى لا يؤثر فيهم فيدخلوا فيه.
3- محاولة تنصير المسلمين: من أجل ذلك جهزوا جيوشاً من المنصرين لهذا الغرض، ووضعوا بين أيديهم الإمكانيات الكبيرة، فمن أجل هذا الغرض عقدوا مؤتمرات عدة بدأوها بمؤتمر (فينا) الكنسي سنة (1312هـ) الذي قرروا فيه إنشاء كراسي جامعية للغة العربية كما حصل في جامعة كمبردج آنذاك وغيرها؛ ليسهل عليهم التعرف على الإسلام ومعرفة مكامن الضعف عند المسلمين فيتسللوا من خلالها.
ثانياً: الدافع الاستعماري:
لما انتهت الحروب الصليبية بهزيمة الصليبيين في القرنين الخامس والسادس الهجريين لم ييأس الغربيون من العودة إلى احتلال بلاد العرب فبلاد الإسلام، لذا اتجهوا إلى دراسة هذه البلدان في كل شئونها من عقيدة وعادات وأخلاق وثروات، فجندوا لهذه المهمة عدداً كبيراً ممن لهم دراية بأحوال البلاد الإسلامية، وسخروا علمهم لخدمة الاستعمار؛ فكان هؤلاء المستشرقون عملاء لحكوماتهم، وشركاء لهم في صنع القرار السياسي في آن واحد.
وقد قام هؤلاء المستشرقون بدراسة هذه البلاد في كل شئونها؛ للتعرف على مواطن القوة فيها فيضعفوها، وإلى مواطن الضعف فيغتنموها، ولإضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوس المسلمين، وبث الوهن والارتباك في تفكيرهم، وكان لهم في ذلك دسائس تسللوا إلى نفوس المسلمين:
1- التشكيك بفائدة ما في أيدي المسلمين من تراث، وبما عندهم من عقيدة وشريعة، وخلق وقيم إنسانية ليفقدوا الثقة بأنفسهم ويرتموا في أحضان الغرب يستجدون منهم المقاييس الأخلاقية والعقائد والحلول لمشاكلهم؛ ليتم للغرب إخضاع المسلمين لحضارته وثقافته إخضاعاً كاملاً.
2- إحلال مفاهيم جاهلية ماتت منذ انتشر الإسلام، كالقوميات الفرعونية، والفينقية، والآشورية، والوثنية، والكردية، والتركية، والفارسية، ونحو ذلك؛ ليتسنى لهم تشتيت شمل الأمة الواحدة.
3- إحلال الفتن الطائفية بين السكان المسلمين وبين غيرهم من أصحاب الديانات والمذاهب الأخرى، وما حرب لبنان عنا ببعيد! وإشعال الفتن بين الدول الجارات، وتمزيق وحدة الأمة الواحدة باتباعهم سياسة (فرق تسد)، وطبخ الانقلابات العسكرية لصالح سياسة دولة من دولهم… حتى باتت كثير من حكوماتنا عسكرية تحكم شعوبها بالحديد والنار، وسفك الدماء، وسجن الأحرار والمصلحين، مع أنهم لا يرضون لأنفسهم إلا الديمقراطية وكامل الحرية الشخصية للفرد.
ثالثاً: الدافع السياسي:
بعد تحرر البلاد الإسلامية من الاستعمار العسكري رأى ساسة الغرب أن يكون للاستعمار طابع آخر، طابع (الاستعمار الفكري)؛ لذا اقتضى الأمر أن تزود القنصليات والسفارات والمؤسسات الدولية التابعة لهم بمن لديهم الخبرة في الدراسات الاستشراقية ويحسنون اللغة العربية؛ ليقوموا بمهمات سياسية متعددة منها:
1- الاتصال بالسياسيين والتفاوض معهم لمعرفة آرائهم واتجاهاتهم.
2- الاتصال برجال الفكر والصحافة للتعرف على أفكارهم وواقع بلادهم.
3- بث الاتجاهات السياسية التي تريدها دولهم، وكثيراً ما كان لهذا الاتصال أثره الخطير في الماضي، حيث كان السفراء الغربيون – ولا يزالون في بعض البلاد العربية الإسلامية – يبثون الدسائس للتفرقة بين بعض الدول العربية بعضها مع بعض، وبينها وبين الدول الإسلامية بحجة توجيه النصح وإسداء المعرفة، بعد أن درسوا -تماماً- نفسية كثيرين من المسئولين في تلك البلاد، وعرفوا نواحي الضعف في سياستهم العامة، كما عرفوا الاتجاهات الشعبية الخطيرة على مصالحهم واستعمارهم.
4- الاتصال بعملائهم وأجرائهم الذين يخدمون أغراضهم السياسية داخل شعوب الأمة الإسلامية.
رابعاً: الدافع التجاري والشخصي:
وبجانب هذا كان هناك أسباب تجارية، وأخرى شخصية تتصل بالمزاج عند بعض الناس الذين تهيأ لهم الفراغ والمال، واتخذوا الاستشراق وسيلة لإشباع رغباتهم الخاصة في السفر أو في الاطلاع على ثقافات العالم القديم.
ومن الدوافع التي كان لها الأثر في تنشيط حركة الاستشراق: رغبة الغربيين في التعامل مع الشرق؛ لترويج بضائعهم في أسواقه، والاستيلاء على موارده الطبيعية الخام بأبخس الأثمان.
خامساً: الدافع العلمي:
ومن المستشرقين نفر قليل جداً أقبلوا على الاشتشراق بدافع حب الاطلاع على حضارات الأمم وأديانها وثقافتها ولغاتها، وهؤلاء كانوا أقل من غيرهم خطأ في فهم الإسلام وتراثه، بل إن منهم من اهتدى إلى الإسلام وآمن برسالته؛ على أن هؤلاء لا يوجدون إلا حين يكون لهم من الموارد المالية الخاصة ما يمكنهم من الانصراف إلى الاستشراق بأمانة وإخلاص؛ لأن أبحاثهم المجردة عن الهوى لا تلقى رواجاً عند رجال الدين، ولا عند رجال السياسة، ولا عند عامة الباحثين، ومن ثمة فهي لا تدر عليهم ربحاً ولا مالاً، ولهذا ندر وجود هذه الفئة في أوساط المستشرقين.
________________________________________
[1] انظر: مقالة (الاستشراق) في دائرة المعارف، قاموس عام لكل فن ومطلب، بإدارة: فؤاد أفرام البستاني، المجلد (12)، (1977م)، (ص:1).
[2] د. أحمد غراب: رؤية إسلامية للاستشراق، ط.ثانية (1411هـ)، (ص:7).
[3] عبد النبي اصطيف: نحو استشراق جديد. مجلة الاجتهاد، العدد (50، 51) السنة الثالثة عشرة، ربيع وصيف العام (2001م-1422هـ)، (ص:40).
[4] محمد أسد: الإسلام على مفترق الطرق، (ص:52-54).
[5] افتراءات فيليب حبيب وربوكلمان على التاريخ الإسلامي: (ص:18)، د. محمود زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، (ص:72).