مقالات
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن قتيبة بن مسلم فاتح الشرق
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن قتيبة بن مسلم فاتح الشرق
بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
نحن الآن أمام رجل ولد بطلًا، وهذا البطل ولد قائدًا.
بعد أن لمعت مواهبه الحربية، عينه الحجاج، وهو الخبير بالرجال، قائدًا على جيوش المشرق.
بدء العمليات الحربية:
كان قتيبة واليًا على مرو وخراسان، أي منطقة إيران اليوم وأفغانستان وما جاورها من بلاد تلك المناطق، وهناك تسكن شعوب مختلفة أبرزهم الترك.
في سنة ست وثمانين للهجرة النبوية الشريفة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، غزا قتيبة بلادًا كثيرة من أرض الترك وغيرهم من الكفار.
بعد تلك الغزوة توجه قتيبة إلى بلاد الترك، وصالحه ملكها نيزك على مال جزيل وعلى أن يطلق مَن في بلاده من أسارى المسلمين.
بداهة عبقري:
وتتجلى عبقرية هذا القائد في غزوة بيكند ولها شأن عجيب؛ حيث اجتمع له من الترك عندها بشر كثير، وهي من أعمال بخارى، فلما نزل قتيبة بأرضهم استنجدوا عليه بأهل الصغد ومن حولهم من الأتراك، فأتوا في جمع عظيم، وأخذوا على قتيبة الطرق كلها، فتواقف هو وهم قريبًا من شهرين، وهو لا يقدرعلى أن يبعث إليهم بريدًا، ولا يأتيه من جهتهم البريد، وأبطأ خبره على الحجاج حتى خاف عليه، وأشفق على من معه من المسلمين من كثرة الأعداء من الترك، فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد، وكتب بذلك إلى بقية البلدان.
وكان لقتيبة عين من العجم يقال له: تُندَر، ينقل إليه الأخبار، فأعطاه أهل بخارى مالًا جزيلًا على أن يخذل قتيبة عنهم، فجاء إليه وقال له: أريد أن أكلمك على انفراد، فلما خلا تندر بقتيبة قال له: سيأتيك البريد بخبر عزل الحجاج، فلو انصرفت بالناس إلى مرو.
لقد كانت بديهة قتيبة سريعة في معالجة هذا الموقف، إنه خبر سيضعف من عزيمة الجند سواء أكان الخبر صادقًا أم كاذبًا، ولم يتريث ليبحث في صحة الخبر أو عدم صحته، وسواء وصل العامل الذي يحمل الخبر بعزل الحجاج أم لم يصل، إن مجرد إشاعة الخبر بين الجنود سيفتك فيهم فتك الوباء الأصفر الذي لايبقي ولا يذر، في هذا الموقف العصيب، فكيف تصرف قتيبة في هذه اللحظة الحرجة؟
إنه موقف يعلِّم الذكاء، والفطانة والبداهة لا في الحياة العسكرية للكبار، بل في كل موقف من مواقف للكبار وللصغار.
نادى قتيبة مولاه سياه، ولم يعرف سياه الخبر، دخل على قتيبة وقال: أمر مولاي.
قال قتيبة: اضرب عنقه بالسيف، وأشار إلى الخائن تندر، فضرب عنقه بالسيف وقتله.
ولم يكتف القائد بدفن الخبر القاتل لمعنوية الجيش الإسلامي، بل أتبعه بما يجب أن يكون، حيث نهض في الجيش فحرضهم على الحرب، ووقف على أصحاب الرايات يشد من عزائمهم، فارتفعت معنوية جنده، وهجموا على عدوهم أسودًا.
تعجب الأعداء من تحول الموقف، ورأوا أن اندفاعهم إلى القتال، وراءه سر غريب، هل وصلهم مدد خُفية وهم لا يدرون؟ هل وصلهم نبأ بالمدد؟ هل تآمر معهم قسم من أهل البلد؟ هل اشتروا ضمائر بعض الجند منا سيتركوننا وينضمون إليهم والمعركة دائرة؟…
وربط الله على قلوب المسلمين، وثبتهم وأمدهم بالتأييد فما انتصف النهار إلا وأنزل عليهم النصر، فهزمت الترك هزيمة عظيمة، وتبعهم المسلمون يقتلونهم ويأسرون منهم كيفما شاؤوا، واعتصم من بقي منهم في المدينة، فأمر القائد قتيبة بهدمها، فسألوه الصلح على مال عظيم، فصالحهم وجعل عليها رجلًا من أهله، ثم عاد، لما سار غير بعيد حتى نقضوا العهد وقتلوا الأمير وجدعوا أنفه، وأنوف من كانوا معه، فرجع إليهم وحاصرهم شهرًا، وأمر النقابين، فأضرم النار في الأسوار فسقط السور، فسألوه الصلح فقال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) ولم يزل بهم حتى فتحها، فقتل المقاتلة وسبى الذرية وغنم الغنائم العظيمة.
وكان الذي حرض أهل المدينة فيهم رجلًا أعور، فأسر فقال: أنا أفندي نفسي بخمسة أثواب صينية قيمتها ألف ألف، فأشار الأمراء على قتيبة بقَبول ذلك العرض المغري، حتى يتقوى بهذه الأموال على الأعداء، فقال قتيبة: لا والله لا أروع بك مسلمًا مرة ثانية، وأمر به فضربت عنقه.
وغنم المسلمون من بيكند شيئًا كثيرًا من آنية الذهب والفضة والأصنام من الذهب، فقوي المسلمون بهذه الأموال قوة عظيمة.
قتيبة يتوغل في بلاد الترك:
كان قتيبة لا يعرف الراحة، ولا الاستقرار في حروبه كلها، كان لا ينام ولا ينيم، كل يوم يتأهب لغزو جديد، فبعد معركة بيكند، تابع البطل جهاده بأن غزا ملك الترك كور مغانون، ابن أخت ملك الصين الأكبر، ومعه مئتا ألف مقاتل من أهل فرغانة وغيرهم، وكان مع قتيبة نيزك ملك الترك مأسورًا وكان قد صالح قتيبة، ثم نقض الصلح ودعا لقتاله كثيرًا من الملوك، وكثير منهم كانوا قد انكسروا أمام قتيبة وصالحوه، فنقضوا العهد، وصاروا يدًا واحدة على قتيبة، فلقيهم وقتل منهم مقتلة لم يسمع بمثلها في تاريخ تلك البلاد منذ أن كانت، وصلب منهم سماطين مسافة أربعة فراسخ من هنا وههنا، وكان اسم قتيبة يهز قلوب الأبطال من الأعداء، ويحسبون للقائه كل حساب، ويعدون أقوى أبطالهم للقائه لأنهم على ثقة أنه لن يتركهم.
سمرقند:
تابع البطل القائد قتيبة سيره إلى سمرقند، فلما سمع به أهلها، انتخبوا منهم كل شديد السطوة من أبناء الملوك والأمراء، وأمروهم أن يسيروا إلى قتيبة في الليل فيفاجئونه، ولكن قتيبة كان قد اتخذ جهاز استخبارات في صفوف العدو، يخبرونه بتحركاته في الوقت المناسب، فجاءته الأخبار بذلك، فكلف أخاه صالحًا في ستمئة فارس من الأبطال الذين لا يطاقون، وكان لصالح في مسيره الليلي طلائع تكشف العدو حتى لا يفاجأ، كما كان له من يحمي مؤخرة الجيش من حركة انقضاض مباغت، وكان الدرب وعرًا شديد التعرج، ناتئ الصخور، وقد استعد كل واحد من الأعداء أن يقفز على فارس من فرسان المسلمين في الظلام، فكان فرسان المسلمين على أهبة الاستعداد، فما إن هجم الأعداء حتى تلقتهم السيوف، واقتتلوا فلم يفلت منهم إلا الطريد الشريد، وهم قلة، وكانوا من الأبطال المعدودين الواحد منهم يعد بمئة فارس، وبعضهم بألف فارس…
روعت سمرقند لهذه الكارثة التي حلت بها، وسار قتيبة ليفتحها ومعه من الترك من يقاتل معه.
ولما اقترب من المدينة العظمى سمرقند نصب عليها المنجنيق ورماها به، فأرسل إليه ملك الصغد غوزك يقول: إنك تقاتلني بإخوتي وأهل بيتي من الترك، فأخرج إلي العرب، فميز قتيبة العرب من العجم، وقدم الشجعان منهم، وزحف بهؤلاء الأبطال إلى المدينة، ورماها بالمجانيق فكُسر فيها جدار، وقام رجل من الترك على الأسوار فجعل يشتم قتيبة، فرماه أحد الجنود المسلمين بسهم فقلع عينه حتى خرج السهم من قفاه، فأعطى قتيبة الذي رماه عشرة آلاف، ولما أصبحوا صالحوه على ألفي ألف ومئتي ألف يحملونها إليه في كل عام، وعلى أن يعطوه مئة ألف من رقيق، وعلى أن يأخذ حلية الأصنام وما في بيوت النار، وعلى أ ن يخلوا المدينة من المقاتلة وأن يبني فيها مسجدًا ويوضع له فيها منبر يخطب عليه، فأجابوه إلى ما طلب، ثم جمع الأصنام وأمر بتحريقها، فقال له الملك: من أحرقها هلك فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي، ثم أخذ شعلة، ثم قام إليها وهو يذكر الله تعالى، وألقى فيها النار فاحترقت، فوجد من بقايا ما كان فيها من الذهب خمسين ألف مثقال، ثم ارتحل إلى بلاد مرو، واستخلف على سمر قند أخاه عبد الله.
ثم غزا قتيبة ما وراء نهر سيحون، وهي بلاد الشاش وفرغانة حتى بلغ خُجندة وكاشان، وما زال يتقدم في بلاد ما وراء النهر في أفغانستان اليوم حتى وصل إلى كابل فحاصرها، ثم خرج إليه الترك في جموع هائلة، وقاتلوا قتال الأبطال.
كانت ميزة الترك أنهم يغيرون على الجيش بجموع تتدفق كالسيل، بخيولهم القصيرة، يصوبون النشاب وهم على ظهور خيلهم، فتطير السهام منصبة على الجند كالمطر المنهمر بالموت، فكانت تروس المقاتلين المسلمين تصد النبال وتتحطم عليها، ثم يباغتون الأعداء بالرماح تشكهم كما يشك الديك، وكان الرمح يشك اثنين أما السيوف؛ فقد كان الفارس يضرب واحدًا فيصير اثنين من قوة الضربة، وكان يضرب العدو فيتدحرج رأسه ثم يمشي صاحبه دون رأس ثم يقع، هذه المشاهد البطولية أذهلت المقاتلين، فكان الظفر حليفهم في كل المعارك التي خاضوها مع قائدهم المظفر.
فقال الشاعر في ذلك:
فسل الفوارس في خجند
ة تحت مرهفة العوالي
هل كنت أجمعهم
إذا هزموا؟ وأقدم في قتالي
هذا وأنت قريع قيـ
س كلها ضخم النوال
تمت مروءتكم وناغـ
ى عزكم غأْب الجبال
وفي سنة ست وتسعين، فتح قتيبة كاشغر من أرض الصين.
ومرة ثانية، بعد موت الخليفة الوليد بن عبد الملك وتولي أخيه سليمان، ينْكب العالم الإسلامي بعد محمد بن القاسم الثقفي، ببطل آخر هو قائدنا العظيم، ويلقى مصيره، بسبب أمور شخصية تافهة.
فرحم الله القائد العظيم فاتح الشرق، قتيبة بن مسلم، ولا يزال اسمه يملأ النفس إكبارًا وإجلالًا في صفحات التاريخ.