د.مصطفى وزيري يكتب: القضاء في مصر القديمة: عدالة “ماعت” التي صنعت حضارة د. مصطفى وزيري

كتب؛ ناصر الجزار
لم تكن العدالة في مصر القديمة مجرد نصوص قانونية أو تشريعات جافة، بل كانت روحًا حية تتجسد في “ماعت”، ربة العدالة والنظام، والتي مثلت حجر الزاوية في كل إجراء قضائي. فالقضاء لم يكن منفصلًا عن العقيدة، بل امتدادًا لها في منظومة جعلت من الحق أساسًا لاستمرار الدولة واستقرارها عبر آلاف السنين.
تعود أولى إشارات التنظيم القضائي الرسمي في مصر القديمة إلى عصر الأسرة الثالثة، حيث لم يكن هناك قانون مكتوب بالمعنى الحديث، بل كان القضاة يستندون إلى أعراف وتقاليد متوارثة، ويتم اختيارهم من بين الكتبة وكبار الإداريين، بما يضمن نزاهة الأحكام وارتباطها بقيم المجتمع.
ومع تطور الدولة، ظهرت محاكم محلية في المقاطعات للفصل في المنازعات اليومية، يترأسها حاكم المقاطعة، وتضم هيئة من الأشراف يُطلق على كل منهم لقب “سر”. أما في العاصمة، فقد وجدت محكمة عليا تختص بالقضايا الكبرى التي تعجز المحاكم المحلية عن الفصل فيها، في مشهد يعكس تطور البنية القضائية ووعي المصريين بأهمية العدالة المركزية.
لم يكن القضاء في مصر القديمة قضاءً شفهيًا فقط، بل دُوّنت ملاحظات القضاة وحُفظت في الأرشيفات الملكية. وتعد “قصة الفلاح الفصيح” من أشهر الوثائق القضائية، حيث تروي تفاصيل مرافعة فلاح بسيط رفع مظلمته ضد مسؤول حكومي أمام القضاة مرارًا حتى نال حقه. وتدل هذه الوثيقة على وجود إجراءات واضحة لتقديم الشكاوى والاستئناف، كما تكشف عن شفافية النظام القضائي ومرونته.
ولم تكن المرأة في مصر القديمة محرومة من المثول أمام القضاء، بل كان لها كامل الحق في التقاضي بشأن الزواج والميراث وعقود البيع، في مشهد يعكس تقدمية المجتمع المصري القديم مقارنة بعصور لاحقة.
تدرجت العقوبات في مصر القديمة وفقًا لنوع الجريمة؛ فالسرقة مثلًا قد تعني الجلد أو مضاعفة التعويض، لكن العدالة لم تكن انتقامية، بل إصلاحية في جوهرها. وقد مُنح القضاة صلاحيات تقديرية، يراعى فيها السياق والدوافع والحالة الاجتماعية للجاني. وتوثق النصوص حالات تم فيها التماس العفو الملكي وقبول التماسات المحكوم عليهم، ما يعكس روح الرحمة والإنسانية في القضاء المصري القديم.
لم يكن العدل مجرد ممارسة رسمية، بل كان قيمة متغلغلة في ضمير المصري القديم، كما يروي “رمنو كا” كبير كهنة الملك منكاورع في مقبرته بالجيزة، مؤكدًا أنه لم يظلم أحدًا قط. ويبلغ احترام العدالة ذروته في مشهد “محكمة المتوفى” بكتاب الموتى، حيث يُوزن قلب الإنسان أمام ريشة “ماعت” ليُنطق بالحكم الأبدي.
لقد كان نظام القضاء في مصر القديمة نظامًا حيًا نابضًا، مرتبطًا بالناس والمعتقدات، ووضع المصريون القدماء حجر الأساس لفكرة الدولة التي تُبنى على الحق، وسابقوا غيرهم في تصور العدالة كفضيلة إنسانية وكونية. إنها قصة حضارة آمنت أن ميزان العدل لا يحمله القاضي فقط، بل يظل حاضرًا في ضمير الأمة كلها، ليبقى إرث “ماعت” شاهدًا على أن العدالة كانت سر بقاء مصر عبر العصور.