مقالات
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الفطرة والجمال
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الفطرة والجمال
بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لا شك فيه أن الإحساس بالجمال أمر فطري، أصيل في جبلة الإنسان، فالإعجاب به دائم، والميل إليه طبيعة في النفس، تهفو إليه حيث وجد، وتشتاقه إذا غاب.
وفطرية هذا الإحساس في النفس الإنسانية لا مرية فيها، فالله سبحانه وتعالى – فضلاً منه وكرمًا – خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأقسم على ذلك، وهذا الإحسان في صنعة الله تعالى من صفاته العموم والشمول، فكان الحسن في الذات شكلاً، وفي الصفات النفسية قابلية، وفي الفطرة تطلعًا واستعدادًا.
والآيات الكريمة تشير إلى هذا بما يقارب التصريح، حينما تتحدث عن امتنان الله تعالى على الإنسان بما يلبي حاجاته الضرورية، وحاجاته الجمالية، وذلك في أكثر من موضع في الكتاب الكريم.
ففي بيان الحقيقة والواقع يقول تعالى: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا.. ﴾[1].
وإذا كان المتاع[2] هو: ما يُتمتع به من ضروريات وحاجيات، فإن الزينة هي التعبير عن الجمال، إذ هي وسيلة صُنعِه، وما ذاك إلا تلبية لما استقر في النفس الإنسانية من مشاعر…
بل إن كثيرًا من سعي الإنسان إنما يكون بقصد تلبية هذه الحاجة الفطرية وعلى قدم المساواة مع تلبية الحاجات الضرورية. أو قريبًا منها. وفي المثل الذي ضربه القرآن الكريم ما يشير إلى هذا:
﴿ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ﴾[3].
فالحلية التي هي أحد مطلبي الإنسان فيما يوقد عليه، إنما هي وسيلة التجميل وصنع الجمال. والعمل الذي يقوم به هو بين ابتغاء للحلية أو ابتغاء للمتاع، وفي هذا ما فيه من الدلالة على أصالة التطلع إلى الجمال في النفس الإنسانية وتأثيره فيها.
وقد تحدث الأئمة من علماء المسلمين عن هذه الفطرية في النفس الإنسانية بكلمات مجملة ولكنها واضحة، وما ذاك إلا لأنها مسلَّمات لا تحتاج إلى البراهين والأدلة.
قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله:
“والطباع السليمة قاضية باستلذاذ النظر إلى الأنوار والأزهار والأطيار المليحة الألوان الحسنة النقش المتناسبة الشكل.. ولا أحد ينكر كون الجمال محبوبًا بالطبع”[4].
وهكذا فهي عنده مسلَّمة لا أحد ينكرها.. ووجودها لدى الإنسان دلالة على سلامة طبعه وصحة نفسه.
وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله:
“… إذ الإنسان مجبول على محبة الحسن وبغض السيء، فالحسن الجميل محبوب مراد، والسيء القبيح مكروه مبغض”[5].
وقد جاء من بعده تلميذه ابن القيم رحمه الله ليؤكد قوله، وذلك في صدد حديثه عن الجمال الظاهر، حيث قال: “… والقلوب كالمطبوعة على محبته، كما هي مفطورة على استحسانه”[6].
إنها آراء صريحة لأئمة أعلام، تؤكد أن الإحساس بالجمال أمر فطري في جبلة الإنسان. وأن استحسانه وحبه كذلك مما طبعت عليه النفوس.
وإذا عدنا – بعد هذا – إلى زمننا الحاضر، نتعرف آراء العصر الذي نعيشه، لاحظنا قلة الباحثين في هذا الميدان ممن يحملون العقيدة الإسلامية ويعيشون التصور الإسلامي. ومع ذلك فالآراء واضحة جلية.
يرى الأستاذ محمد قطب – في صدد حديثه عن القيم العليا – أن الإحساس بالجمال أمر فطري، وأن القضية في نظره أضحت مسلمة لا تحتاج إلى دليل، ولذا يكتفي بالكلمات التالية “وهو إحساس فطري، والدلالة واضحة..[7]”.
وأما مؤلف “الظلال” رحمه الله فإنه ينتقل بنا نقلةً بعيدة. فهو لا يراه فطرة في الإنسان فحسب، بل يراه فطرة الوجود كله قال رحمه الله: “ونظرة إلى السماء كافية لرؤية هذه الزينة. ولإدراك أن الجمال عنصر مقصود في بناء هذا الكون، وأن صنعة الصانع فيه بديعة التكوين جميلة التنسيق، وأن الجمال فيه فطرة عميقة لا عرض سطحي..[8]”.
إن هذه الحقيقة – فطرية الإحساس بالجمال – التي عرفها المسلمون على امتداد عصورهم وكانت نتاجًا طبيعيًا للتصور الإسلامي الشامل، حتى بانت مسلمة من المسلمات لم تكن كذلك لدى غيرهم…
وفي العصر الحديث قليل أولئك الذين توصلوا إليها أو قالوا بها.. فكل أولئك الذين جعلوا من الفنان إنسانًا آخر فوق البشر وغير البشر، لم يروا ذلك. وكذلك الذين نادوا باستبعاد الفن والجمال… لأنهما يعرقلان مسير ثورتهم[9] لم يروا ذلك. وكل الذين قامت فلسفاتهم على العبث.. والتمرد.. لم يهتموا بذلك..
على أننا لا نعدم مفكرين نظروا من خلال فطرتهم لا من خلال الفلسفات التي أحاطت بهم فتوصلوا إلى الحقيقة أو قريبًا منها.
نستطيع أن نلمح هذا من خلال رأي “كانت” وهو يتحدث عن إدراك الجمال حيث يرى “إن إدراك الجمال في الأشياء يعتبر إدراكًا مباشرًا مستقلاً عن تصورنا لما هو “جميل”. وكذلك فنحن لا حاجة بنا إلى برهان للتدليل على جمال الأشياء. وإنما تتبدى في الشيء سمة الجمال التي ندركها فيه دون حاجة إلى تصور نموذج أو مثال للجمال نقيس بمقتضاه جمال الأشياء”[10].
ويرى “رسكن”[11] أن الشعور الجمالي غريزي في الإنسان، أي أنه سابق على التجربة…[12].
ويعبر “الكسيس كاريل” عن هذه الحقيقة بأسلوب آخر فيقول: “إن الإحساس بالجمال موجود في الإنسان البدائي مثلما هو موجود في أكثر الناس تمدينًا…[13]”.
وهذا يعني استقرار هذه الحقيقة في فطرة الإنسان بغض النظر عن بيئته وعصره وثقافته…
________________________________________
[1] سورة القصص [60].
[2] المتاع في الأصل: كل شيء يُنتفع به ويُتبلغ به ويُتزود. ﴿ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ ﴾ أي بلغة يتبلغ به لا بقاء له.
المتعة: الزاد القليل، والمتاع: من أمتعة البيت ما يستمتع الإنسان به من حوائجه.
والمتاع: المال والأثاث (عن لسان العرب) ويتبين مما سبق أن الكلمة مستعملة لغة في الضروريات. ولذا كانت الزينة في مقابلها.
[3] سورة الرعد. الآية 17.
[4] إحياء علوم الدين 4/298. طبعة دار المعرفة، بيروت.
[5] الاستقامة لابن تيمية 1/367 تحقيق د. محمد رشاد سالم ط1، 1403هـ.
[6] روضة المحبين. لابن القيم. الباب التاسع عشر.
[7] دراسات في النفس الإنسانية. فصل “القيم العليا”.
[8] في ظلال القرآن. تفسير سورة الصافات الآية 6.
[9] انظر في الباب الأول فصل: الجمال والفلسفة.
[10] فلسفة الجمال. أبو ريان ص 36.
[11] جون رسكن (1819 – 1900) كاتب إنكليزي، وناقد فني واجتماعي، قرن النقد الجمالي بالوعظ الأخلاقي.
[12] المصدر السابق ص 51.
[13] الإنسان ذلك المجهول ص 154.