حرب الاستنزاف .. حرب الألف يوم وارقام وحقائق
كتب ؛ناصر الجزار
ونستعرض في العدد الرابع حروب الاستنزاف أو حروب الألف يوم
أو المواجهة…يعد يوم 8 سبتمبر 1968، نقطة تحول الرئيسية في تنشيط الجبهة. فكان هذا اليوم بداية مرحلة الدفاع النشط، التي أرادت مصر أن تبـدأها بقوة، تعلن عن نفسها إقليميا وعالميا، وتصاب فيها القوات الإسرائيلية بأكبر قدر من الخسائر. وقد شملت أعمال قتال هذا اليوم على قصفات مدفعية، مدبرة وتحت سترها تدفع دوريات قتال على طول الجبهة. وقد خططت هذه القصفات مركزيا بحيث تشمل جميع الأهداف الإسرائيلية شرقي القناة حتى عمق 20 كيلومترا. وروعي أن تبدأ قبل آخر ضوء بفترة مناسبة، وتستمر إلى ما بعد آخر ضوء، وقد اشترك في هذه القصفات 38 كتيبة مدفعية من مختلف الأعيرة، أطلقت نيرانها لمدة ثلاث ساعات، من الرابعة والنصف إلى السابعة والنصف مساء، وشاركت جميع الأسلحة المضادة للدبابات، لتطلق نيرانها من الضفة الغربية للقناة، على الأهداف المعادية المرئية على الضفة الشرقية. واستهدفت هذه القصفات خط بارليف، الجاري إنشاءه في المقام الأول، ثم جميع مواقع الصـواريخ 216 مم، 240 مم التي يستخدمها الجانب الآخر في التأثير على مدن القناة، وجميع مواقع المدفعية، ومناطق الشؤون الإدارية، ومناطق تمركز الأفراد. وقد شكلت هذه القصفات صدمة نفسية للجانب الآخر، حيث شعر لأول مرة أن السيطرة النيرانية قد آلت للقوات المسلحة المصرية. وتكبدت إسرائيل خسائر جسيمة، شملت تدمير 19 دبابة، وثمانية مواقع صواريخ، وعشرات الدشم، ومناطق الشؤون الإدارية، ومناطق التمركز. وأسكتت خلالها جميع مدفعيات إسرائيل، التي قدرت وقتها بسبعة عشر بطارية مدفعية.
وفي 26 أكتوبر تكررت قصفات المدفعية المركزة، ولكن بصورة أقل، حيث اشتركت فيها 23 كتيبة مدفعية، أطلقت نيرانها لمدة سبعين دقيقة. واستهدفت بالدرجة الأولى تدمير مواقع الصواريخ 216، 240 مم بعد تحديدها بدقة من خلال الدوريات التي سبق دفعها، ومن خلال صور جوية حديثة. وتحت ستر هذه القصفات، دفع العديد من الكـمائن لاصطياد الدبابات والمركبات التي تحاول الهروب أثناء القصف. وقد نجح هذا القصف كذلك، وشكل للجانب الآخر صورة غير مألوفة من الإزعاج، نتيجة للخسائر التي تكبدها، والتي حددها بعد ذلك بأنها 49 فردا بين قتيل وجريح علاوة على تدمير وحدات الصواريخ.
وطبقا للفكر الإسرائيلي، الذي تلقى خسائر ليست هينة على جبهة القناة، واقتنع بأن التفوق آل إلى المصريين في هذه المنطقة، فقد لجأ إلى توسيع الجبهة وامتدادها إلى مناطق بعيدة للغاية، حتى تضطر القيادة المصرية إلى نشر قواتها على مواجهة ألف كيلومترا، تمثل طول الحدود الشرقية المصرية بالكامل، ومن ثم يتلاشى التفوق المصري على الجبهة. ووضع القيادة السياسية في مأزق، عندما يشعر الشعب أن إسرائيل اخترقت أعماقه، ودمرت أهدافا حيوية دون أن تتعرض لها القوات المسلحة المسؤولة أساساً عن تأمين هذا الشعب. وقد اختارت إسرائيل هدفها في نجع حمادي، وفي محطة محولات كهرباء السد العالي بالتحديد، حتى يكون التأثير محسوساً لدى الشعب كله. وقد تمت هذه العملية ليلة 1 نوفمبر 1968، من خلال عملية ليلية، أريد بها هدفاً سياسيا وليس عسكريا. واستخدم فيها طائرات الهليوكوبتر سوبر فريليون، التي كانت إسرائيل قد حصلت عليها حديثا. واختير أفراد القوة الإسرائيلية من المظليين الذين يتكلمون العربية بطلاقه، حتى أعتقد أهالي المنطقة أنهم مصريون. ولذلك لم يتعرضوا لهم في البداية، مما أدى إلى نجاح هذه العملية التي كان تأثيرها ضعيفا، ولم تحقق الهدف السياسي الذي خططته إسرائيل. أما على الجانب العسكري المصري، فكان لا بد من إعادة النظر في تأمين العمق المصري، حتى لا تلجأ إسرائيل لتكرار هذه العملية. وفي الوقت نفسه أعيد تقييم العمليات العسكرية، لتأخذ صورة أخرى أشد من قصفات المدفعية. وقد كان ذلك سببا في تهدئة الأوضاع على الجبهة إلا من الاشتباكات بالأسلحة الصغيرة، وإطلاق حرية قنص أفراد الجيش الإسرائيلي، ومنعهم من التحرك بحرية على طول الجبهة، مع تكثيف دفع دوريات الاستطلاع، للحصول على أكبر قدر من المعلومات للمرحلة القادمة. أما في عمق الدولة، فقد نفذ العديد من إجراءات التأمين، من خلال وحدات الدفاع الشعبي على مستوياتها المختلفة. وقد استغلت القوات الإسرائيلية هذه المرحلة في تحسين موقفها الدفاعي، واستكمال تحصينات خط بارليف، الذي تابعته القوات المصرية جيدا، واكتشفت نقاط ضعفه، تمهيداً لتدميره في مراحل لاحقة
مرحلة التحدي والردع أو الاستنزاف…طبقا للتخطيط المصري، كان شهر فبراير 1969 يمثل نهاية الشهور الستة المحددة، كمرحلة انتقالية بما كان يطلق عليه الدفاع النشط. وشهد مارس 1969 أهم مراحل التصعيد العسكري ما بين الجولتين الثالثة والرابعة في الصراع العربي الإسرائيلي. وقد أديرت هذه المرحلة سياسيا وعسكريا بتنسيق متكامل لتحقق الهدف منها ولتتوازن في التصعيد والتهدئة. وتحددت مهامها في تقييد حرية تحركات العدو على الضفة الشرقية للقناة، وإرهاقه وإحداث أكبر خسائر به، وكانت هـذه المرحلة التي امتدت من يوم 8 مارس 1969 إلى 8 أغسطس 1970، طويلة وشاقة، وهي لا تقـل عسكريا عن أي جولة من جولات الصراع العربي الإسرائيلي، بل تعد أطول جولة في تاريخ هذا الصراع.
من 8 مارس وحتى 19 يوليو 1969…بدأت هذه المرحلة صباح 8 مارس 1969، وامتدت إلى 19 يوليو من العام نفسه، وتميزت بسيطرة مطلقة للقوات المصرية على خط الجبهة. وكانت المدفعية هي الوسيلة الرئيسية للعمل خلالها، حيث صبت على حصون خط بارليف، والأهداف الأخرى، حوالي 40 ألف قذيفة، بادئة أعمالها يوم 8 مارس بأكبر حشد نيراني مؤثر منذ توقفت نيران حرب يونيو. واستمر هذا القصف ساعات متواصلة، اشتركت فيه 34 كتيبة مدفعية، يعاونها حشد من أسلحة الضرب المباشر كالمدافع المضادة للدبابات، والدبابات الثقيلة عيار 122 مم، لتدمير مزاغل نيران دشم خط بارليف. وقد أحدث هذا القصف تأثيرا شديدا على الطرف الآخر القابع شرق القناة، حتى وصل حجم الخسائر تدمير حوالي 29 دبابة، و30 دشمة في خط بارليف، وإسكات 20 بطارية مدفعية، وحرائق شديدة في ست مناطق إدارية، وغير ذلك من الخسائر.
وفي الساعة 3:30 من بعد ظهر يوم 9 مارس 1969، استشهد الفريق عبد المنعم رياض أثناء جولة له ومعه مجموعة قيادته، في قطاع الجيش الثاني الميداني، في منطقة النقطة الرقم 6 بالإسماعيلية، وذلك عندما أطلق الجانب الإسرائيلي نيران مدفعيته وإنفجار إحدى الدانات بالقرب منهم، حيث أصابتهم جميعا واستشهد الفريق عبد المنعم رياض أثناء إخلائه.
في 13 مارس 1969، وقع حدثان متضادان في وقت واحد وفي منطقة واحدة، حيث بدأت إغارات القوات المصرية لتدمير موقع للجيش الإسرائيلي، في منقطة جنوب البحيرات نفذتها الكتيبة 33 صاعقة، ونجحت في مهمتها ودمرت الموقع، وخطفت أسيراً، وأصابت دبابتين، وغنمت عينات من أسلحة العدو وألغامه.
وفي الوقت نفسه، كانت القوات الإسرائيلية تحاول إنزال قوارب، والإغارة على منطقة قريبة في منطقة جنوب البحيرات أيضا، حيث قوبلت بنيران شديدة من القوات المصرية التي كانت على أعلى درجة الاستعداد لتأمين إغارتها. وبذلك أفشلت المحاولة واستمرت الاشتباكات بالنيران طوال الليل.
ولم تجد القوات الإسرائيلية وسيلة للرد سوى إعادة قصف مدن القناة. فقصفت قطار السكة الحديد في مساره بين الإسماعيلية والسويس في منطقة الشلوفة. واستمرت القوات المصرية في تصعيد أعمالها القتالية. حتى كان يوم 17 إبريل 1969، حيث نفذت قوات الجيش الثاني الخطة هدير، بتوجيه مدافع الدبابات الثقيلة إلى فتحات المراقبة والتسديد لدشم خط بارليف لتخترقها. وتفجرت الدشم من الداخل وقتل الأفراد المتحصنين بها. وقد نجحت الخطة تماما بما أدى إلى تطاير تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي الجنرال موشى ديان، واعدا ومهددا القوات المصرية التي لم تعبأ بتهديده، بل أعادت الإغارة على نقطة دفاعية قوية جنوب البلاح لتدمرها. وكان الرد الإسرائيلي متوقعا، حيث أغار يوم 29 إبريل 1969 على محطة محولات نجع حمادي للمرة الثانية، وأسقط عبوات ناسفة زمنية قرب إدفو أصابت بعض المدنيين الأبرياء. وكان الرد المصري مباشرا وسريعا وفي الليلة التالية مباشرة، بالإغارة على نقطة جنوب البلاح للمرة الثانية ونسفها بالكامل.
خلال شهري يونيو ويوليو، تصاعدت الإغارات من الجانبين. فقد نفذ الجانب الإسرائيلي خمس إغارات، استهدفت مواقع منعزلة على ساحل خليج السويس والبحر الأحمر، كان أهمها العملية بولموس أو الإغارة على الجزيرة الخضراء شمالي الخليج يوم 19 يوليو 1969، التي قادها الجنرال رفائيل إيتان، واستهدفت في الأساس موقع الرادار في الجزيرة. وقد أبدت القوات المدافعة جسارة نادرة شهد لها الأعداء قبل الأصدقاء، لدرجة أن قائد الموقع لما شاهد نجاح القوات الإسرائيلية في الوصول إلى الجزيرة، طلب من المدفعية قصف الجزيرة بالكامل، بما فيها من إسرائيليين ومصريين وكان من نتيجة ذلك أن فشلت الإغارة وتكبد الإسرائيليون خسائر كبيرة، أجبرت الجنرال إيتان على الانسحاب.
وفي المقابل شنت القوات المصرية غارات ناجحة على نقط الجيش الإسرائيلي القوية، أحدثت تدميرا وخسائر في نقطتي شمال البلاح والشط. أما الإغارة على نقطة لسان التمساح شرق مدينة الإسماعيلية، وهي النقطة التي أصابت الشهيد الفريق عبد المنعم رياض، فكانت هي الثأر المدبر من القوات الخاصة المصرية بقيادة الشهيد المقدم إبراهيم الرفاعي. فقد أغارت هذه القوات المدربة على أعلى مستوى ليلة 8 يوليو 1969، وقتلت وأصابت حوالي 30 جنديا إسرائيليا، ودمرت دبابتين، ونسفت 4 دشم، وخسرت هذه القوات 9 شهداء. أما الإغارة الأخرى التي أصابت القيادة الإسرائيلية في مقتل فكانت هي الإغارة على نقطة لسان بور توفيق ليلة 11 يوليو، وفي التوقيت نفسه، إغارة أخرى على النقطة القوية في منطقة القرش شمال الإسماعيلية. وقد نتج عن إغارة لسان بور توفيق قتل وجرح 40 فردا، وتدمير خمس دبابات وأربع دشم، وأسير واحد، دون أن تتكبد القوات المصرية أي خسائر.
وقد أدت نتائج هذه الإغارات الأليمة إلى تغيير جذري في خطط إسرائيل لمجابهة الاستنزاف المصري، والتصعيد بالاستنزاف المضاد، إلى مرحلة أكثر شمولا بإدخال الطيران الإسرائيلي ذراع إسرائيل الطويلة في المعركة وتنفيذ العملية بوكسر. ويقول زئيف شيف المحلل الإسرائيلي في كتابه عن حرب الاستنزاف. أن عملية لسان بور توفيق هي التي أنهت الجدل داخل أروقة القيادة الإسرائيلية حول حتمية تدخل الطيران في المعركة. ويستطرد: ” لقد كان هذا النجاح هو أبرز ما حققه المصريون، ومن الواضح أنه كان سيحفزهم إلى نشاط أكبر، لا مناص عن إيقافهم عنه بسرعة “.[17] كما ذكرت صحيفة معاريف نقلا عن المتحدث العسكري الإسرائيلي: ” أمام الضغط الهائل الذي مارسه المصريون في الجبهة، والحياة التي أصبحت لا تطاق على الضفة الشرقية للقناة، أقدمت القيادة الإسرائيلية على استخدام سلاح الطيران، الذي كانت كل الآراء تصر على الاحتفاظ به للمستقبل “. وقد مهدت القوات الإسرائيلية لدفع الطيران بمحاولة التخلص من بعض الرادارات المصرية ونقط المراقبة الجوية. لذلك كان القصف الجوي ضد وحدة الرادار المصرية في الأردن يوم 22 إبريل 1969، وكذلك إغارة الجزيرة الخضراء، وإغارة الأدبية، ضد نقطة مراقبة جوية منعزلة
من 20 يوليو وحتى نهاية عام 1969….اعتبارا من 20 يوليو 1969، بدأت المرحلة الثانية من حرب الاستنزاف بإدخال إسرائيل لعامل رئيسي جديد في هذه الحرب، اتسعت من خلاله مجالات المواجهة ليشمل مسارح العمليات بالكامل، بعد أن كانت مقتصرة على المسرح البري خلال الفترة السابقة. وقد افتتحت إسرائيل هذه المرحلة بتنفيذ العملية بوكسر، التي تتلخص في تنفيذ 500 طلعة طائرة تقصف 2500 قنبلة بإجمالي 500 طن على أهداف منتخبة خلال 10 أيام، وهي مواقع الدفاع الجوي والرادارات، ومواقع المدفعيات، والقوات في الجبهة. ويفخر رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال حاييم بارليف، بأنه خلال الفترة من 20 يوليو وحتى 7 سبتمبر 1969، نفذت الطائرات الإسرائيلية 1000 غارة لإجبار مصر على نشر قواتها وتخفيف الحشد في جبهة القناة.
وفي يوم 9 سبتمبر 1969 قامت إسرائيل بإنزال سرية دبابات ت 55 من مخلفات حرب يونيو في منطقة أبو الدرج على ساحل البحر الأحمر، اتجهت جنوبا إلى الزعفرانة مدمرة كل الأهداف والسيارات المدنية التي اعترضت طريقها، مستغلة خلو المنطقة تماما من أية قوات عسكرية سوى بعض نقاط المراقـبة، ونقطة تمركز بحرية بها لنشي طوربيد مصريين حرصت على تدميرهما قبل بداية الإنزال بواسطة الضفادع البشرية. وقد نجحت الإغارة دعائيا على الرغم من أنها لم يكن لها مردود عسكري مؤثر، إلا أن رد فعل الإغارة كان عميقا في القيادة العامة، لتحديد مسئولية عدم اكتشاف قوة الإغارة أثناء وجودها على الشاطئ الشرقي للخليج قبل تنفيذ العملية، وكذلك مسئولية عدم اتخاذ إجراء إيجابي قوي لمواجهة القوة بعد نزولها على الشاطئ الغربي وبقائها 6 ساعات. وقد استغلت إسرائيل هذه الإغارة إعلاميا بطريقة مثيرة، بعد أن سجلت لها فيلما عرضته على الشعب الإسرائيلي.
افتتحت القوات الخاصة المصرية أول أيام شهر أكتوبر 1969، بعملية كبري للرد على إنزال العدو في الزعفرانة. فقد أبرت قوة من المجموعة 39 عمليات خاصة بحرا وجوا في منطقة رأس ملعب. وتقدمت على الطريق الساحلي في هذه المنطقة حتى رأس مطارمة، ونسفت جميع الأهداف العسكرية ثم نسفت الطريق نفسه. ووضعت ألغاما وشراكا خداعية في بعض المناطق وعادت سالمة. وقد انفجرت هذه الألغام في القوات الإسرائيلية التي هرعت للنجدة بعد انسحاب القوة. في شهري نوفمبر وديسمبر، تملكت القوات المصرية زمام المبادرة وتوسعت في أعمال الكمائن النهارية، بعد أن أوقفت إسرائيل التحركات الليلية تفاديا للكمائن التي دمرت الكثير من قواته المتحركة. ومن أهم الإغارات التي نفذت خلال هذه الفترة:
إلى اللقاء في الجزء الخامس من سلسلة حروب الاستنزاف أو حروب الألف يوم