مقالات
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الغبن الفاحش
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الغبن الفاحش
بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
ميز الفقهاء بين الغبن الفاحش المتولد عن الاستغلال والخداع، وبين الغبن الفاحش المتولد عن العلم والرضا من حيث الحكم والآثار، وسيظهر ذلك من خلال الفروع الآتية:
الفرع الأول: الغبن الفاحش المتولد عن الخداع:
اتفق الفقهاء على حُرمة وكراهة الغبن الفاحش للمسترسِل – اسم فاعل من استرسل إذا اطمأن واستأنس، والمراد هنا: الجاهل بالقيمة من بائع ومشترٍ، وكان مستسئلاً مستنصحًا للذي عامله – والمخدوع والمستغل للأدلة التالية:
أ – قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، قال القرطبي: (اعلم أن كل معاملة تجارةٌ، على أي وجه كان العوض، إلا أن قوله: ﴿ بِالْبَاطِلِ ﴾ أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعًا من ربًا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد)[1]، وقال ابن حزم: (ولا يكون التراضي ألبتة إلا على معلوم القدر، ولا شك في أن من لم يعلم بالغبن ولا بقدره فلم يرضَ به، فصح أن البيع بذلك أكل مال بالباطل)[2].
ب – قال تعالى: ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 9]، قال ابن حزم: (ولا يمتري أحد في أن بيع المرء بأكثرَ مما يساوي ما باع ممن لا يدري ذلك خديعة للمشتري، وأن بيع المرء بأقل مما يساوي ما باع وهو لا يدري ذلك خديعة للبائع، والخديعة حرام لا تصح)[3].
ج – عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صُبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟))، قال: أصابَتْه السماء يا رسول الله، قال: ((أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني))[4].
وجه الاستدلال بالحديث:
الغش تدليس وخداع يؤدي إلى الغَبْن الفاحش، ومن غش ولم ينصح فقد أتى حرامًا.
د – قال صلى الله عليه وسلم: ((إن دماءَكم وأموالكم حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة… ))[5].
وجه الاستدلال بالحديث:
الحديث عام يشمل بعمومه الغبنَ الفاحش المتولد عن الغش والخداع.
هـ – قال صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة))، قلنا: لمن؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)[6].
وجه الاستدلال بالحديث:
قال ابن حزم: (من أخذ من آخر فيما يبيع منه أكثر مما يساوي بغير علم المشتري ولا رضاه، ومن أعطاه آخر فيما يشتري منه أقل مما يساوي بغير علم البائع ولا رضاه، فقد غشه ولم ينصحه، ومن غش ولم ينصح فقد أتى حرامًا)[7].
الفرع الثاني: الغبن الفاحش المتولد عن العلم والرضا:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة إلى قولين:
الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن أثمان السلع في الرخص والغلاء وارتفاع الأسعار وانخفاضها جائز التغابن في ذلك كله إذا كان كل واحد من المتبايعين مالكًا لأمره، وكان ذلك عن تراضٍ منهما، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها:
1 – قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، قال ابن عبدالبر: (وكل بيعٍ كان عن تراضٍ من المتبايعين لم ينهَ اللهُ عز وجل عنه، ولا رسوله، ولا اتفق العلماء عليه – فجائزٌ بظاهر هذه الآية، وظاهر قوله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275])[8].
وقال القرطبي: (والجمهور على جواز الغبن في التجارة، مثل أن يبيع ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة، فذلك جائز، وأن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه اليسير، وهذا ما لا اختلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك، كما تجوز الهبة)[9].
وقال ابن حزم: (وأما إذا علم بقدر الغبن كلاهما وتراضيَا جميعًا به، فهو عقد صحيح، وتجارة عن تراضٍ، وبيع لا داخلة فيه)[10].
2 – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعُوا الناس يرزقِ اللهُ بعضَهم من بعض))[11].
وجه الاستدلال بالحديث:
النص بعمومه يشمل الغبن الفاحش المتولد عن العلم والرضا.
3 – سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، قال: ((إذا زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير))[12].
وجه الاستدلال بالحديث:
يدل الحديث صراحة على إباحة الغبن الفاحش المتولد عن الرضا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح بيع الأمة بحبل من شَعرٍ إذا رضِي بائعها بذلك.
4 – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستام الرجلُ على سَوْمِ أخيه)[13].
وجه الاستدلال بالحديث:
المساومة: أن يسأل أحدهما أن يعطيه الآخر ثمنًا أقل من القيمة أو أكثر، ولو كان ذلك باطلاً؛ لِما أباحه الله تعالى على لسان رسوله.
قال ابن حزم: (فصح أن كل ذلك جائز إذا عرفاه وعرفا مقداره وتراضيا معًا به، ولم يكن خديعةً ولا غشًّا)[14].
5 – عن ابن عمر – رضي الله عنهما -: أن رجلاً ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا بايعتَ فقل: لا خِلابةَ))، فكان الرجلُ إذ بايَع يقول: لا خِلابة[15].
وجه الاستدلال بالحديث:
يدل الحديث الشريف على عدم جواز الزيادة المتولدة عن الخداع، وتجوز بالعلم وطِيب النفس.
والثاني: ذهب بعض الظاهرية إلى بطلان بيع الشيء بأكثر مما يساوي، وإن علما جميعًا بذلك وتراضيا به، مستدلين بما يأتي:
أ – قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرَّم ثلاثًا، ونهى عن ثلاث: عقوق الوالدات، ووأد البنات، ولا وهات، ونهى عن ثلاث: قيل وقال، وإضاعة المال، وإلحاف السؤال))[16].
وجه الاستدلال بالحديث:
المشتري للشيء بأكثر من قيمته، والبائع له بأقل من قيمته كلاهما مضيِّع لماله.
ب – لا يجوز إخراج المال عن المِلك إلا بعوض، والزيادة أو النقص لا يقابله عوض؛ فيكون أكلاً لأموال الناس بالباطل.
ج – من باع ثمرة بألف دينار، أو ياقوتة بفَلْس، فإن هذا هو السرف والتبذير المحرم شرعًا[17].
المناقشة والترجيح:
ناقش ابن حزم أصحابه بقوله[18]: إن الذي قلتم إنما هو فيما لا يعلم قدره، وأما إذا علم بقدر الغبن وطابت به نفسه، فهو بر برَّ به معامله بطيب نفسه؛ فهو مأجور؛ لأنه فعل خيرًا، وأحسن إلى إنسان، وترك له مالاً، أو أعطاه مالاً، وليس التبذير والسرفُ وإضاعة المال وأكله بالباطل إلا ما حرَّمه الله عز وجل، وأما التجارة عن تراضٍ فما حرمها الله تعالى قط، بل أباحها، وإنما يجوز من التطوع بالزيادة بالشراء ما أبقى غنى؛ لأنه معروف من البيع، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل معروف صدقة))[19].
إذا ثبت هذا، فإن رأي الجمهور هو الراجح؛ لأنه يجعل حرية المتعاقدين في التعاقد هي الأصل، والتقييد استثناء لا يتوسع فيه، ولا يقاس عليه إلا في حدود المصلحة المستندة إلى دليلٍ شرعي معتبر، ومن يرضى بالزيادة أو النقص فهو تبرع طابت نفسه به، وهو أدرى بمصلحتِه.
الفرع الثالث: آثار الغبن المحرَّم:
يترتب على الغبن المحرم الأحكام الآتية:
1 – ثبوت العصيان على الغابن، ووجوب الخروج من المعصية بالتوبة المصحوبة بالندم، والعزم على عدم العود لذلك مرة أخرى، وإعادة الزيادة أو النقص إلى المغبون إن أمكن ذلك، وعند العجز التخلص من المال الحرام عن طريق التصدق به، ويكون الأجر للمغبون.
2 – سبب الحرمة والمعصية الضرر النفسي والاجتماعي والاقتصادي، ومن ذلك:
أ – انعدام الثقة والمحبة بين الناس.
ب – زعزعة الاقتصاد، وظهور ما يسمى بالتضخم الاقتصادي.
ج – اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
د – اتساع دائرة الفقر، وعدم قدرة الفقراء على إشباع حاجاتهم الأساسية.
هـ – ظهور ما يسمى بالإحباط والاكتئاب النفسي.
3 – ثبوت الخيار للمغبون بين الفسخ والإمضاء بعد عِلمه بالغبن الفاحش.
4 – ينتهي الخيار ويصبح العقد لازمًا بفوات محل العقد، أو موت المغبون، أو انتهاء المدة لدى جماهير الفقهاء.
5 – مدة الخيار: أوله عند العقد والعلم بالغبن الفاحش، وآخره مختلف فيه، فعند الجمهور ثلاثة أيام، وهو الراجح، وعند المالكية في العقار شهر، وفي الدواب والثياب ثلاثة أيام، وفي الفواكه ساعة، وقيل عند بعض الفقهاء: يمتد ما دامت السلعة قائمة إلى موت المغبون، وحق الرد لا يورث، إلا إذا كانت الدعوى قائمة ومات المدعي يقوم الوارث مقامه، ولا ترد أو تسقط الدعوى بالموت.
6 – إذا تلف المبيع قبل قبضه، فهو من مال بائعه، وإن تلف بعد قبضه وبعد انقضاء الخيار فهو من مال المشتري، وإن كان في زمن الخيار من غير تفريط، وكان الخيار للبائع، فالتلف من المشتري، وإن كان الخيار للمشتري فالتلف من البائع.
7 – يجوز لمن له الخيار الفسخ من غير حضور صاحبه ولا رضاه، وبهذا قال المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف وزفر من الحنفية، وقال أبو حنيفة: ليس له الفسخ إلا بحضرة صاحبه؛ لأن العقد تعلق به حق كل واحد من المتعاقدين، فلم يملِكْ أحدهما فسخه بغير حضور صاحبه، والراجح رأي الجمهور؛ لأن من له الخيار له رفع العقد، ولا يفتقر ذلك إلى رضا صاحبه، فلم يفتقر إلى حضوره، ولكن يجب أن يخطر بالفسخ أصولاً.
8 – إذا كان المفسوخ بالخيار من عقود المدة كالإجارة، فإن الفسخ يرفع العقد من حين الفسخ لا من أصله، والمغبون يرجع بما زاده أو نقص عن أجرة المثل؛ لاستدراك ظلامة الغبن.
9 – غبن أحد الزوجين في المهر بأن يكون الزواج بأقل أو أكثر من مهر المثل، لا يعطي المغبون الحق في فسخ النكاح؛ لأن المهر ليس ركنًا، وإنما أثَرٌ من آثار النكاح، والنكاح بطبيعته وخصوصيته عقد لازم مؤبَّد، لا يكون المهر فيه ثمنًا للمرأة، وإنما عطيَّة من الزوج لزوجه.
10 – المغبون عليه عبء إثبات جهله بالغبن الفاحش بالبينة الخطية أو الشخصية أو المعاينة والخبرة، والراجح قَبول قوله مع يمينه أنه جاهل بالقيمة[20].
________________________________________
[1] الجامع لأحكام القرآن (5/ 130)، وانظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 137).
[2] المحلى (7/ 360)، وانظر: الاستذكار (6/ 539)، وكشاف القناع (4/ 1442).
[3] المحلى (7/ 360)، وانظر: شرح كتاب النيل (8/ 194)، وشرائع الإسلام (2/ 22).
[4] صحيح مسلم بشرح النووي (1/ 386)، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن غشنا فليس منا))، رقم 102.
[5] صحيح مسلم بشرح النووي (4/ 431)، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم 1218.
[6] صحيح مسلم بشرح النووي (1/ 312)، كتاب الإيمان، باب أن الدين النصيحة، رقم 55.
[7] المحلى (7/ 361).
[8] الاستذكار (6/ 540).
[9] الجامع لأحكام القرآن (5/ 130).
[10] المحلى (7/ 363)، وانظر: الخلاف (3/ 41).
[11] صحيح مسلم بشرح النووي (5/ 425)، كتاب البيع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي، رقم 1522.
[12] صحيح البخاري (6/ 2509)، باب لا يثرب على الأمة إذا زنت ولا تنفى.
[13] فتح الباري بشرح صحيح البخاري (7/ 205)، كتاب الشروط، باب الشروط في الطلاق، رقم 2727.
[14] المحلى (7/ 365)، وانظر: البيان (5/ 348) وما بعدها.
[15] سنن أبي داود (3/ 282).
[16] السنن الكبرى (6/ 63).
[17] المحلى (7/ 364).
[18] المحلى (7/ 364).
[19] فتح الباري بشرح صحيح البخاري (13/ 514)، كتاب الأدب، باب كل معروف صدقة، رقم 6021.
[20] كشاف القناع (4/ 1442).