مقالات

الحياة كذبة نتشبث بها لنواصل

ريم ماهر ….

 

 

 

في لحظات الصمت العميق، حين يسكن العالم حولنا وتعلو أصوات أفكارنا، تتسلل إلينا تلك الأسئلة الثقيلة وأهما، لماذا نركض ونقاتل ونحلم، رغم أننا نعلم أن النهاية واحدة؟

فيبدو أحيانًا أن الحياة ليست إلا كذبة جميلة، نسردها لأنفسنا يومًا بعد يوم لنقنع قلوبنا بالاستمرار.

 

نخلق أهدافًا، نبني أحلامًا، نؤمن بالحب، بالأمل، بالمستقبل، ربما لأن الحقيقة مجرّدة وقاسية؛ أننا ضيوف عابرون في مسرح كبير، نلعب أدوارًا مؤقتة، ثم نغادر بصمت. ومع ذلك، ورغم وعينا بهذه الحقيقة، لا نتوقف. نتمسك بخيوط الوهم، نزين الواقع، نعيد خلق المعنى، لأننا ببساطة لا نعرف كيف نعيش دون حلم.

 

لكن، هل الكذبة دائمًا شيء سلبي؟ أحيانًا تكون الكذبة حياة بحد ذاتها. الكذبة التي نقولها لأنفسنا كل صباح: “كل شيء سيكون بخير”، تمنحنا قدرة خارقة على النهوض بعد السقوط، على الضحك وسط الألم، على الإيمان وسط العبث. الحياة قد لا تكون عادلة، لكنها تستحق أن تُعاش، حتى لو من خلال قصة نحكيها لأنفسنا لنصمد.

 

نخاف من الفراغ أكثر من الألم، لذلك نملأه بأي شيء: علاقة، هدف، مشروع جديد، حتى لو كان مؤقتًا أو هشًا. المهم أن يكون هناك ما يشغلنا عن مواجهة العدم. نغضّ الطرف عن هشاشة كل شيء، ونستمر في التمثيل، لأننا نخشى أن نخلع الأقنعة وننظر في المرآة دون مكياج الأمل. ربما لأننا لا نعرف من نكون دون تلك الأقنعة، أو لأن الحقيقة عارية لدرجة لا تُحتمل.

 

ومع مرور الوقت، نصبح نحن أنفسنا جزءًا من تلك الكذبة. نصير روايتنا التي اخترعناها، ونعيشها بإتقان. الكذبة تكبر معنا، تتطور، تصبح أكثر تعقيدًا وجمالًا، حتى تغدو حياة كاملة. هل هذا خطأ؟ ربما لا. طالما تمنحنا هذه الرواية القدرة على الاستمرار، على المحبة، على خلق لحظات صغيرة من الفرح وسط عالم غير مضمون، فإنها تستحق أن تُروى، وتُصدق… ولو قليلاً.

 

ولعل أجمل ما في هذه الكذبة أنها قابلة للتشكيل. نعيد كتابتها كما نشاء، نُعدّل أحداثها، نُغيّر نهاياتها، ونُضيف إليها لمسة أمل في لحظة انكسار، أو بصيص نور في عتمة يأس. إنها مرنة، تتسع لتشمل كل ما فقدناه، وكل ما تمنّيناه، حتى لو لم نُمسكه يومًا. الكذبة تمنحنا فرصة ثانية، وثالثة، وعاشرة، لنبدأ من جديد دون أن نُحاسب أنفسنا على الانهيارات السابقة.

 

وربما لا تكون الكذبة مجرد وسيلة للهروب، بل فعل مقاومة. أن نخترع معنى في عالم يفتقد المعنى، هو بحد ذاته تحدٍّ نبيل. أن نخلق ضوءًا وهميًا في آخر النفق حين يعمّ الظلام، هو نوع من الشجاعة. لأن الاستسلام للحقيقة كما هي، بكل صراحتها القاسية، قد يُغرقنا في العدم. أما الكذبة التي نحوكها بعناية، فهي حبل نجاة، نتمسّك به كي لا ننزلق في هاوية اللاجدوى.

 

وفي نهاية المطاف، لسنا وحدنا في هذا التمثيل الجماعي. الجميع يرتدي أقنعته الخاصة، يروي قصته كما يشاء، يختار كذبته المفضلة ويؤمن بها بإخلاص. لعلها آلية بقاء قديمة، محفورة في الوعي البشري منذ الأزل. نحن نحيا بالوهم كما نحيا بالهواء. وبين الحقيقة والكذبة، لا يكون الخيار دائمًا أخلاقيًا أو عقلانيًا، بل إنسانيًا صرفًا. نختار ما يجعلنا نتحمّل هذا العالم، وما يمنح قلوبنا سببًا آخر لتخفق، ولو مرة واحدة بعد كل انكسار.

بقلم:

ريم ماهر.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى