حين تُخان الثقة .. أثر تحرش المنحرفين بالصغار

ريم ماهر تكتب….
في زوايا المجتمع المعتمة، تحدث مآسٍ صامتة لا تجد لها مكانًا كافيًا في النقاش العام. من أكثر هذه الجرائم إيلامًا تحرش الرجال كبار السن بالأطفال، وهي جريمة لا تقتصر على انتهاك الجسد، بل تترك جراحًا نفسية عميقة قد تلازم الضحايا طيلة حياتهم.
كبار السن، الذين يُفترض أن يكونوا مصدر حكمة وأمان، يتحول بعضهم إلى مصدر للخوف والانتهاك. هذه الخيانة في علاقة الثقة الطبيعية بين الطفل والبالغ تهدم معايير الأمان النفسي لدى الضحية منذ سن مبكرة. الطفل، الذي يحتاج إلى عالم مستقر وآمن لينمو، يجد نفسه في مواجهة مع واقع خادع، حيث من يفترض أن يحميه يصبح سببًا في ألمه.
الآثار النفسية لتحرش كبار السن بالأطفال لا تقتصر على مرحلة الطفولة فقط، بل تمتد لتؤثر على الشخصية والهوية والعلاقات طوال العمر. من أبرز هذه التأثيرات الشعور بالخزي والذنب، رغم أن الضحية لم يكن مذنبًا أبدًا. كما يعاني الكثير من الأطفال الناجين من القلق المزمن، ونوبات الاكتئاب، واضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD)، واضطرابات في الثقة بالنفس والآخرين.
تتضاعف معاناة الضحية عندما يُجبر على الاحتكاك المستمر بالجاني، خاصة في الحالات التي يكون فيها المعتدي فردًا من الأسرة أو من دائرة قريبة يصعب الانفصال عنها. هذا القرب القسري يرسّخ مشاعر العجز والخوف، ويجعل عملية الشفاء أكثر تعقيدًا، إذ لا يتاح للطفل فرصة الابتعاد عن مصدر الألم ولا استيعاب ما حدث ضمن بيئة آمنة وداعمة.
غالبًا ما يعيش الطفل المعتدى عليه في صمت، مدفوعًا بالخوف من عدم التصديق أو اللوم، خصوصًا إذا كان الجاني شخصية لها احترام اجتماعي أو مكانة عائلية. هذا الصمت يضاعف الألم، ويجعل الجرح أعمق وأكثر تعقيدًا في العلاج لاحقًا.
إضافة إلى ذلك، يجب إدراك أن الأطفال ضحايا هذا النوع من الانتهاك قد يظهرون أنماطًا سلوكية متناقضة: فقد يبدو بعضهم عدوانيًا بشكل مفرط، بينما ينغلق آخرون على أنفسهم ويخفت صوتهم تمامًا. هذه السلوكيات ليست علامات على “سوء التصرف”، بل صرخات صامتة لطلب المساعدة. من المهم أن يتعلم الآباء والمربون كيفية قراءة هذه الإشارات، وأن يردوا عليها بحب واحتواء، لا بلوم أو عقاب، ليعيدوا للطفل ثقته بنفسه والعالم من حوله.
ومما يزيد من قسوة الموقف أن التحرش يأتي ممن يمتلكون قوة التأثير أو السلطة على الطفل، سواء بموقعهم العمري أو الاجتماعي، ما يجعل مقاومة الطفل أو طلبه للمساعدة أمرًا معقدًا ومخيفًا. فالطفل يشعر بأنه محاصر، عاجز، ومذنب، ويُخلق داخله إحساس مشوه بالحب والعقاب.
يُفاقم الإهمال المجتمعي خطورة هذه الظاهرة، إذ أن الصمت الجماعي، وعدم توفير منصات آمنة للإبلاغ والدعم، يسهمان في استمرار المعتدين في جرائمهم بلا رادع. كثيرًا ما يتعامل المحيطون مع قصص التحرش بشيء من الإنكار أو التقليل، مما يُشعر الضحية بأنه بلا سند، ويزيد من تردد الضحايا الآخرين في كسر دائرة الصمت.
إن علاج آثار هذا النوع من التحرش يحتاج إلى رعاية نفسية طويلة الأمد، تبدأ بالاعتراف بما حدث دون إنكار أو تبرير. يحتاج الضحية إلى أن يُصدق، ويُحمى، ويُعطى مساحة آمنة للتعبير عن ألمه بلا خوف. الدعم العاطفي، والعلاج النفسي المتخصص، والتعليم حول الحدود الصحية، كلها خطوات أساسية لبدء رحلة الشفاء.
ومن الضروري أن يبدأ التثقيف الجنسي الوقائي منذ مراحل الطفولة المبكرة، بطريقة مناسبة للسن، توضح للأطفال بطريقة مبسطة مفهوم الخصوصية الجسدية، وأهمية حماية حدودهم الشخصية، وتشجعهم على التحدث عن أي شعور بالانزعاج دون خوف من العقاب أو اللوم. إن غرس هذه المبادئ منذ الصغر يخلق أجيالًا أكثر وعيًا وقدرة على حماية أنفسهم.
أما المجتمع، فعليه أن يكسر ثقافة الصمت والخجل، ويواجه هذه الجرائم بشجاعة. التربية على احترام الجسد وحدوده، وتمكين الأطفال من التحدث بثقة عن أي سلوك يؤذيهم، مع بناء أنظمة حماية قانونية واجتماعية صارمة، هي أساس الوقاية.
في النهاية، تحرش كبار السن بالأطفال جريمة مضاعفة: لأنها تقتل البراءة، وتخلّف ندوبًا لا تندمل بسهولة. كل طفل يستحق أن يكبر في بيئة آمنة، خالية من الخوف والخذلان. وكل صوت طفل يجب أن يُسمع، وأن يجد عدالة تحميه، وقلوبًا تؤمن ببراءته.
في معركة حماية الطفولة، لا مكان للتردد أو المجاملة، فكل تهاون هو خيانة لطفل ينتظر منّا أن نكون صوته حين يخفت صوته، وسنده حين تخونه قواه. علينا أن نرفع جدران الأمان حول أطفالنا، لا بالصمت أو الخوف، بل بالوعي، والصدق، والعدالة. كل جرح نسكت عنه اليوم، قد يصبح صرخة ألم تدوي في أجيال قادمة. فلنجعل حماية البراءة واجبًا لا يساوم عليه، ولنعمل جميعًا كي لا يضطر أي طفل أن يحمل جراح الصمت وحده بعد اليوم.
بقلم:
ريم ماهر.